بعد ستة أشهرٍ من الإقامة في سجنين، عاد علي الرضا زعيتر ليل أول من أمس إلى بيته. لكنها كانت عودة منقوصة، بنصف جسدٍ، بعدما فقد الإحساس بجزئه الأيمن نتيجة الضرب الذي تعرّض له لدى مخابرات الجيش. طوال الفترة التي عاشها سجيناً، كان علي وحيداً وكانت أمه «محاميته»، إذ لم يكن لدى العائلة قدرة على تأمين بدلات أتعاب محامٍ كان قد تبنّى قضية علي في البداية ثم تركها. تابعت الأمّ ملف ابنها الأمني لدى المحكمة العسكرية والنيابة العامة بنفسها، محاولة في كل مرّة إنقاذه بطلب إخلاء سبيل. خمس مراتٍ تقدّمت بها أمّ علي الرضا بإخلاءات سبيل خرجت من بعدها خاسرة، حتى كانت المرة السادسة والأخيرة قبل أسبوعين من اليوم، عندما وافقت المحكمة العسكرية والنيابة العامة التمييزية على ورقة إخلاء السبيل، المرفقة بعبارة واحدة «غير صالح للسجن».

مقبرة الأحياء
أمس، كان الفطور الأول لعلي مع عائلته. ومن بعده فنجان القهوة الساخن. تفاصيل باتت لها أهمية بالنسبة إليه، فهي على بساطتها «بتسوى الدني». قضى ابن الرابعة والعشرين، ستة أشهر في السجن، شهرين ونصف شهر منها في سجن الريحانية لدى مخابرات الجيش والبقية في سجن بيروت، كان خلالها أشبه بـ«الميّت المؤجّل دفنه». وهي ليست حالة استثنائية في السجون، إذ الكلّ هناك يعيشون الشعور نفسه. يقول الشاب بعد تلك التجربة: «يللي ما فات على السجن ما بيعرف شو يعني سجن». السجن مقبرة الأحياء، ومن يخرج منه، «الأكيد أنه سيخرج ناقصاً، بلا حياة».
يختصر الشاب يومياته المتشابهة في السجن. في الصباح، يغصب السجناء أنفسهم على شرب فنجان من القهوة الباردة. يخضّون القهوة في عبوة مياه بلاستيكية صغيرة كي تختلط بالماء ثم يشربونها، ومن بعدها يحين موعد الفطور «شو في معلبات بنفتحها». لا طعام طازج. حتى عندما يحين موعد الغداء، وهو الموعد الوحيد الذي يتناول فيه المساجين «طبخاً»، وفي الغالب هو طعام الجيش، لم يعد يدري السجناء ما يأكلونه مع رداءة نوعية الأكل. وفي المساء، يسلّي كل سجين نفسه بأي شيء، بانتظار ساعة النوم. وتلك حكاية أخرى عن كيفية ترتيب كلّ سجين لمكان المنامة. صحيح أن علي ينام على السرير لأنه وضعه الصحي يفرض ذلك، إلا أنه كان يرى كيف يحار السجناء في ترتيب منامتهم، وفي الغالب تنتهي بـ«النوم كعب وراس». لولا تلك «النشاطات»، لما كان المساجين يميّزون نهارهم من ليلهم، فهناك في الغرفة التي يقطن فيها 13 سجيناً، لا تشرق الشمس ولا تغرب، إذ إن السجن يقع تحت الأرض.
بسبب وضعه الصحي، كان علي يحظى بالاهتمام في سجن بيروت، إذ كان لديه سريره الخاص لأنه لا يستطيع التحكّم بأطرافه وكان مستلقياً طوال اليوم، وبتوصية من آمر السجن، كانت تعدّ له أمه جزءاً من الأكل، بما أنه لا يستطيع أن يأكل مما يأكل منه زملاؤه، لا تمييزاً، وإنما لأن «أكل السجن قد يفاقم حالته الصحية، خصوصاً أنه بات يعاني من ضغط القلب ومن عدم انتظامٍ في عمل الكلى ومن نوبات الصرع».

الإقامة لدى الدولة
هذه التوصية فرضها وضع علي الصحي الذي بدأ مشواره في الثامن عشر من كانون الثاني الماضي، عندما قُبض عليه في منطقة المنصورية. يومها، نال علي قسطاً وافراً من الضرب أدى إلى دخوله في «حالة كوما لمدة 12 يوماً»، وخرج منها بشللٍ نصفي وبنصف رأس وبجروح كثيرة لا تزال بارزة بعد ستة أشهرٍ من الاعتقال. نسي علي ما الذي حصل في تلك الليلة. ما يتذكّره أنهم «أوقفوني ووضعوا لي الأصفاد وشعرت بشيءٍ يشبه الطلقة في رأسي ثم لم أعد أعرف شيئاً». في اليوم الثاني عشر، استفاق وكان عاجزاً عن النطق بسبب الإصابة في رأسه، ومع ذلك خضع لأول تحقيق معه في اليوم الرابع عشر، وكان أوّل سؤال طُرح عليه «علي منذر زعيتر، أبو سلّة». يضحك علي اليوم، ولكنه يتذكر أنه في السجن رأى كيف يُصنّف الناس بالتهم «ليس مبالغاً به القول بأنك سترين ابن بعلبك مخدرات والطرابلسي إرهاباً، كنت أظنها مزحة ولكنّي رأيت كيف نُصنّف في السجن».
شهران، بقي خلالهما علي عاجزاً عن الكلام ولكنه كان يسمع ما يقال، وقبل أن يخرج من سجن الريحانية الذي نُقل إليه بعد أسبوعين من الإقامة في المستشفى «قال لي أحد العسكريين بأنهم أطلقوا النار عليّ».
بعد شهرين ونصف شهر، نُقل علي إلى سجن بيروت «ووصلت إلى هناك عند الثانية عشرة ليلاً. نمت ليلتين في الانفرادي، ثم خرجت إلى الغرفة التي بقيت فيها حتى موعد خروجي أول من أمس». وعندما رآه آمر السجن، قال له: «لو أنني كنت هنا لحظة وصولك لما قبلت بتسلّمك». خلال تلك الفترة، كان علي يُنقل كل يومٍ إلى المستشفى العسكري حيث لازمته نوبات الصرع والكهرباء. يقول: «زهقوا مني هونيك».
رفع مستشفى بلفو دعوى قضائية ضد زعيتر مطالباً بدفع 10 آلاف دولار


طوال ستة أشهرٍ، استجوب علي وحيداً. مرة واحدة حضر معه المحامي، فيما المرات المتبقّية لم يكن معه أحد، إذ إن «المحامي كان يريد مالاً غير متوفّر لدى أفراد عائلتي، فبالكاد كانوا يؤمّنون لي الأدوية التي أحتاج إليها». هناك، اختبر حرفياً معنى الإقامة «لدى الدولة»، وهو ما يجعله اليوم يخاف من جلسات التحقيق المقبلة، وأُولاها في تشرين الثاني المقبل.
اليوم، يخرج علي إلى الضوء على كرسي متحرّك، ومع سلّة من الأدوية يحملها مثل العجائز «علماً أنني لم أعرف يوماً طعم حبة البانادول»… وبدعوى من مستشفى بلفو ـ المنصورية حيث نقلته مخابرات الجيش، «إذ يطالبوننا بدفع 10 آلاف دولار لقاء مكوثي لديهم». مع ذلك، لا يهمّ كل ذلك. بالنسبة إليه ما هو مهم اليوم «أن يجيبوني على سؤالي لماذا فعلوا بي ذلك؟ أوقفوني ووضعوا الأصفاد في يدَيَّ ولكن لماذا أطلقوا عليَّ النار؟»، وإن كان يعرف أن لا إجابة ستأتيه.