لم يتخلَّ الثنائي لمى وربيع عن فرحة «ليلة العمر» رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي دفعتهما إلى تأجيل زفافهما عاماً كاملاً. قرّرا الاكتفاء بجلسة تصوير بثياب الزفاف من دون إقامة حفل لا قدرة لديهما على تحمّل تكاليفه، واتّبعا سياسة التقشف في اختيار الفستان والبدلة وكلفة صالون التجميل، كما انسحب التقشّف على تجهيزات المنزل. صحيح أنهما كانا محظوظين لشرائهما معظم أثاث المنزل قبل الأزمة والارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار «وإلا كنا سنحلم بشرائه الآن»، لكن بقيت نحو 30% من التجهيزات ناقصة.
بات حفل الزفاف من الكماليات (أرشيف ــ مروان طحطح)

خطوة لمى وربيع لم تعد متاحة لكثيرين في ظلّ الأزمة الحالية. تكشف جولة على محالّ الأثاث والأدوات الكهربائية أن كلفة تجهيز منزل لزوجين بالأساسيات فقط، أي غرفة جلوس وغرفة نوم وطاولة سفرة والأدوات الكهربائية الأساسية بجودة مقبولة تُراوح بين الـ5 آلاف والـ6 آلاف دولار أميركي، أي ما يعادل الـ150 مليون ليرة لبنانية. وهو مبلغ لم يعد في متناول الكثيرين. كما لعبت أزمة الإسكان دوراً كبيراً في تحويل فكرة الزواج إلى فكرةٍ تعجيزيّة، إضافة إلى أزمة المصارف وغلاء ايجارات المنازل التي ترتفع مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، وصولاً إلى ارتفاع نسبة البطالة في البلاد. فبحسب دراسة نشرتها «الدوليّة للمعلومات»، مستندة فيها إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أواخر العام الماضي، تبيّن أن نسبة البطالة باتت تقارب الـ35% من حجم القوى العاملة المُقدّر عددها بنحو 1,340 مليون عامل أي أنّ عدد العاطلين من العمل يُراوح بين 470 و500 ألف.

الحفاظ على العلاقة
لا تقتصر تحدّيات الزواج على الأمور المادية فقط، بل تتعدّاها إلى الحفاظ على العلاقة في ظلّ هذه الظروف، لكي تستمرّ وتُتوّج بالزواج. تقول سيرين التي أقبلت وشريكها على الزواج منذ شهر، أنها لم تفكر للحظة بإنهاء علاقتها بخطيبها بسبب الأزمة، لأنها تعتبر أن وفاءها وحبّها له أقوى من كلّ الظروف. ساعدته في تجهيز المنزل، كما ساعدهما أفراد العائلتين والمقرّبون منهما بهدايا مادية وعينيّة، اعتمدا عليها للانتهاء من شراء الأغراض المنزلية. لا تخفي الصّعوبات التي واجهتها وزوجها للوصول إلى هذا اليوم «فقد حرمنا أنفسنا من بعض الأمور». اكتفيا بـ»زفة» وحفلة صغيرة بدلاً من إقامة حفل زفاف، ليوفّرا المبالغ المطلوبة لشراء الأغراض المنزليّة الأساسية. أما اليوم، فهما أمام تحدّ جديد هو المصاريف اليومية بين كهرباء ومياه وإنترنت ومأكل ومشرب، بالإضافة إلى إيجار المنزل... استحقاقات كثيرة جعلتها تقرّر وزوجها تأجيل مشروع الإنجاب «على الأقلّ سنة واحدة، لنشعر بالاستقرار المادي الذي يسمح لنا بالإقدام على خطوة كهذه».

الإنجاب: الهاجس الأكبر
تؤكد الاختصاصية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية، والمتخصّصة في قضايا الأسرة الدكتورة سهير الغالي وجود هذا التوجّه لدى المتزوّجين، معتبرة أن «الوضع الراهن أثّر سلباً على الارتباط». وتشير إلى ازدياد في حالات الانفصال نتيجة الأزمة «ومن كانوا يفكرون بالزواج تراجعوا، لعدم قدرتهم على تحمّل الأعباء المادية للزواج أو الإنجاب».
70% تقريباً ممن هاجروا تُراوح أعمارهم بين 25 و40 عاماً


يُعدّ الإنجاب وتربية الأطفال هاجساً كبيراً لدى المتزوّجين أو المقبلين على الزواج، والأرقام الّتي عرضتها الدولية للمعلومات استناداً إلى المديرية العامة للأحوال الشخصية خير دليلٍ على ذلك، إذ أظهرت تراجعاً في معدّل الولادات خلال عام 2021 بنسبة 32% عن عام 2018، مع تراجع عقود الزواج بنسبة 7,2% وهي نسبة مرتفعة وخطيرة، وهناك من يردّها إلى الوضع الاقتصادي، إضافة إلى جائحة كورونا التي أثّرت على الإنجاب والزواج.

الهجرة والطلاق
يربط الباحث في «الدولية للمعلومات»، محمد شمس الدين، تراجع نسب الولادات وعقود الزواج بالهجرة والطلاق، خصوصاً أن تراجع الولادات يتزامن مع موجة هجرة كبيرة من البلاد «70% تقريباً ممن هاجروا تُراوح أعمارهم بين 25 و40 عاماً أي من الفئات الشابة»، ما سيؤدي بحسب شمس الدين، إلى «انقلاب في هرم الأعمار خلال السنوات العشر المقبلة، وهذا الأمر يحوّل المجتمع اللبناني إلى مجتمع هَرِم غير منتج قد يحتاج إلى العمالة الأجنبية ليصبح منتجاً».
ولكن هل يمكن أن تكون العوامل الاجتماعية المتمثّلة بالأفكار المستوردة والانفتاح على المجتمعات الأخرى سبباً في هذا التراجع؟ يجيب شمس الدين: «يمكن أن تؤثر المفاهيم الجديدة والأفكار الغربية على تراجع في نسب الزواج والإنجاب ولكن ليس بهذه النسب الكبيرة، والدليل على ذلك أنها لم تتراجع منذ 6 و7 سنوات إلى الحدّ الذي وصلت إليه».
في المقابل، ترفض الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي والمعالجة النفسية سناء الجميّل، تأثير الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا على موضوع الزواج فقط، بل أيضاً «هناك تأثّر مجتمعاتنا بقيم المجتمعات الحديثة المعولمة، فلدينا شريحة اجتماعية تجمع بين قيم تقليدية وأخرى حديثة».

تحدّيات ثقافية؟
تتعرّض الأسرة في مجتمعاتنا العربية اليوم، لهجوم خارجيّ لا ينسجم مع ثقافتها من أجل ضرب مفاهيمها الأخلاقيّة وقيمها الأساسيّة بحسب المتخصّصة في شؤون الأسرة الدكتورة سهير الغالي، فالأسرة كما تعرّفها الغالي هي قيمة اجتماعية بحدّ ذاتها، وتُبنى على أساس شراكة لإنتاج أفرادٍ صالحين في هذا المجتمع. برأيها «الأفكار والمبادئ المستوردة من مجتمع غربيّ، لا يمكنها أن تتطابق بشكل كلّي مع خصوصيّة مجتمعنا وثقافته إذا كانت لا تشبهه، لذلك نجد أنفسنا أمام تحدٍّ اجتماعيّ كبير، قوامه الحفاظ على شكل الأسرة». وبحسب الغالي، فإنّ «الهجرة أثّرت بشكلٍ كبير على تأخّر الزواج، لأن الشّباب أجّلوا فكرة ارتباطهم بشريكات حياتهم فقلَّت فرص الإناث في الحصول على شريك مناسب». وتؤكد الغالي أنّ «هجرة الإناث بهدف التعلّم والعمل، لعبت أيضاً دوراً في تفاقم هذه الأزمة، بسبب التبدّل الحاصل في أولويّاتهنّ واعتبارهنّ الزّواج موضوعاً ثانويّاً».
وعن الحلول، تتوجّه الغالي إلى المرتبطين بنصيحة عدم الانجرار خلف فكرة الانفصال: «خصوصاً في هذه الأزمة، فكلّما كانت العلاقة متينة، تحوّلت العوامل الخارجيّة إلى دوافع لتقوية العلاقة وفرصة لتنميتها». وتُضيف: «الشّجرة وقت العاصفة تنحني ولا تنكسر، وعليه يجب على أيّ ثنائي إيجاد حلولٍ بديلة، وتغيير نمط الحياة، فما قبل الأزمة ليس كما بعدها، وكل أزمة مؤقّتة، وإن طالت ستنتهي».