يتميّز لبنان، وأكثر من أيّ بلد متخلّف في هذا العالم، بأن البديهيات تحتاج إلى تعريف، وأن التعريف يستثير دائماً سجالات - وليس حوارات - يجري فيها تقاذف حمم العصبيات غير العاقلة التي تحرق الأخضر واليابس. هذا مع أنها ببساطة بديهيات. مثلاً:ما هي الوطنية؟ أن تكون ضد المشروع الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة، وبالتالي ضد السياسة الإسرائيلية - الأميركية في لبنان لأن... هل نحن بحاجة إلى شرح؟
ما هي اللاوطنية؟ أن تكون، ولو تحت شعارات السيادة والديمقراطية و«العروبة» الخليجية، ضد أعداء أميركا وإسرائيل في المنطقة وفي لبنان.
تعريف ساذج؟ ليس بقدر سذاجة حرب «الكلّة» التي طغت على كل تاريخنا «المجيد»، ونشيد «نيال من لو فيك مرقد عنزة» الذي غطّينا به عورات الصيغة «الحضارية الفريدة». وبعد؟...
في مقال سابق بعنوان «عنزة ولو طارت»، بيَّنَّا عبر سرد تاريخي كيف أن السلطة في لبنان - ولا أقول الدولة - كانت تقوم دائماً على معادلة خارجية أطرافها القوى الدولية والإقليمية المتنفّذة، وأن كل خلل كان يصيب هذه المعادلة كان ينعكس على لبنان أزمة سياسية، وأحياناً حرباً أهلية.
ومنذ عام 1840 إلى يومنا هذا، كان أطراف الطبقة السياسية الطائفية، وفي فترات الحروب الباردة والحامية، ينتظرون معادلة ما تركب في الخارج، الخارج الدولي والإقليمي، ويستعدون لتوظيف أنفسهم فيها قادة ورجال دولة وزعماء طوائف «يحبون بعضهم بعضاً»، ويدعون اللبنانيين إلى هذه «المحبة» الفتّاكة تحت رايات «الصيغة».
اليوم، وفي خضمّ الصراعات الدولية والإقليمية العاتية، هل يمكن أن نتوقع تسوية ما، أو معادلة ما يمكن أن تشمل بعطفها لبنان فتخرجه، ولو إلى حين، من أزمته السياسية الراهنة التي تنذر بحرب أهلية جديدة؟
إن قراءة واقعية - لا غيبيّة - لهذه الصراعات الدولية والإقليمية تبيّن بوضوح أن العالم لا يزال بعيداً جداً عن «يالطا»، وأن المنطقة لا تزال بعيدة جداً حتى عن «سايكس بيكو»، وأن لبنان بعيد جداً عن أية تسوية «داخلية» كتلك التي أنهت حرب «الكلة» 1840 - 1860، وتلك التي قامت عليها «دولة لبنان الكبير» سنة 1921، واستقلال «دولة لبنان الكبير» سنة 1943، وكذلك تسوية عام 1958، ثم الطائف، ثم الدوحة.
ماذا يعني هذا؟ يعني أننا قريبون جداً من الحرب الأهلية. هذا ما يعمل لأجله الحلف الأميركي - الإسرائيلي ومن يدور في فلكه من أوروبيين و«عرب» و«سياديين». وهذا بالضبط، ما يجب أن تتصدّى له القوى الوطنية، الوطنية بحسب التعريف الذي بدأنا به.
من بين القوى الوطنية يبرز أولاً حزب الله، الذي يتعرّض لهجوم شرس من قبل «السياديين» ورعاتهم ومموّليهم، ويتعرّض أيضاً لانتقادات محقّة أحياناً وظالمة أحياناً من قبل حلفاء المقاومة، الحلفاء الوطنيين الثابتين وليس العابرين. مفهوم؟ ... مفهوم.
إذاً، لنحاول فهم سياسة الحزب خلال الأزمة التي تفجّرت في 17 تشرين 2019.
منذ أن أطلقت الولايات المتحدة الأميركية ربيعها اللبناني وثورتها الملوّنة المزركشة، بدا الارتباك واضحاً على القوى الوطنية كافة وفي طليعتها حزب الله.
في دفاعه المستميت عن السلم الأهلي في ظل المعادلة التقليدية التي أرساها اتفاق «الطائف» 1989، ورمّمها اتفاق «الدوحة» 2008، وجد حزب الله نفسه في موقع الدفاع عن معادلة ميتة، وعن موقعه في هذه المعادلة. وجد نفسه في موقع الدفاع المستميت عن نظام ميت تفوح منه كل الروائح الكريهة وعن كل ما هو مكروه ومن هو مكروه في هذه التركيبة، ولم يفكر أبداً بتجاوزه. هذا ليس مسؤولية الحزب وحده ولكنها مسؤولية القوى الوطنية التي، بتشتّتها وضعفها، كانت عاملاً مؤثراً جداً في دفع الحزب إلى هذا الموقع. أقول هذا للتفسير وليس للتبرير. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد جعلت جماعاتها في موقع «التغيير» تحت شعارات الحرية والسيادة ومكافحة الفساد وتجديد الطبقة السياسية المهترئة، وتقديم «نخبة» من الشباب والشابات الجدد «الحلوين» و«الملوّنين» بألوان ربيعها.
قلت إن القوى الوطنية التي من أولى واجباتها التصدي لمشروع الحرب الأهلية، والانتقال بلبنان نحو صيغة وطنية لبناء الدولة عوضاً عن انتظار معادلة خارجية لن تأتي، لم تدرك أن السبب الرئيس - وليس الوحيد - لضعفها هو عدم إدراك دورها، وعدم التجرّؤ على التقاط هذا الدور والسير به، لا لإنشاء «الدولة المدنية»، وهي قائمة بالفعل، ولكن لإنشاء الدولة الوطنية، وهي غير قائمة بالفعل.
على القوى الوطنية أن تنطلق من حقيقتين، كي لا تستمر بتقليد النعامة، وهما:
1- أن الدولة في لبنان، بل ما كنّا نسميه تجاوزاً «الدولة»، قد انهارت... انهارت بالكامل، وأن الصيغة التي كانت تقوم عليها «الدولة» قد ماتت... ماتت إلى الأبد.
2- أن انتظار معادلة ما، تهبط علينا من الخارج فتعيد بناء الدولة، هو وهم... وهم لن يتحقق.
بعد ذلك تأتي مسألة الدور... دور هذه القوى لإقامة الدولة الوطنية، عبر مرحلة انتقالية تبدأ بإقامة سلطة مؤقّتة تتولى جميع مهمات المؤسسات الدستورية، رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب.
تضع السلطة الانتقالية إعلاناً دستورياً يحكم عملها خلال المرحلة الانتقالية.
تضع صيغة دستور وطني يجري إقراره بالاستفتاء الشعبي العام.
بالاستناد إلى هذا الدستور تضع قانوناً وطنياً للانتخابات النيابية، وتتولى إجراء انتخابات نيابية وفق أحكام هذا القانون.
يتولى المجلس الجديد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة. بهذا تكتمل عملية بناء الدولة الوطنية.
أما عن سائر القضايا المهمة والشائكة في كلّ المجالات المالية والاقتصادية والدفاعية و... فتتولى معالجتها السلطة الانتقالية ثم الدولة الوطنية.
يبقى سؤال: كيف نصل إلى هذه السلطة الانتقالية؟ لننتظر المؤتمر الذي تعقده «الجبهة الوطنية» خلال بضعة أسابيع، فلديها ما تقوله في هذا المجال، لعل...

* نائب سابق، رئيس «حركة الشعب»