لم يكن، في الدكان القريب، سوى «غالون» مياه عذبة، عبّأتها الشركة العالمية من نبع الباروك. أعجوبة. لكن، نجت نباتات الشرفة من اليباس، مع احتباس الحرّ تحت غمامة التلوّث في بيروت. فرصةُ نجاةٍ، مؤقّتة، أمّنتها غَصْباً، الشركة العابرة للبشر، بديلاً من الرجاء، والصُّنْبور الجاف والبِئْر الملوّثة والوقود المقطوع.هذا البُؤس، ليس حكراً على مدن ساحل حوض الشام، من غزّة إلى اللاذقيّة. يلتهم الجفاف منطقة «الهلال الخصيب» كلّها. يسابق الجوع، أسرع من الاستيطان والتقسيم، أقسى من جلاجل الترحال.
«أبوكاليبتو» مُعتبر، ينتظر أحفاد الإنسان الذي اكتشف الزراعة وطوّرها، وأنشأ على أساسها أول وحدة اجتماعية، على ضفاف دجلة والفرات والعاصي والليطاني والحاصباني والأسود وطبريا.
المقابلة الصريحة للمدير العام السابق في وزارة خارجية العدوّ، يوفال روتيم، في اليوم الأول من السنة الحالية، مع الصحافي العبري ألوف بن، تقدّم أجوبةً عن مستقبل ملتهب، للشام والرافدين.
يدخل الدبلوماسي الصهيوني، صاحب الاختصاص والدّور في العلاقات الإسرائيلية ــ التركية، مباشرةً في صلب الخطّة: «ليس من مصلحتنا أن تبقى مياه دجلة والفرات في أيدي السوريين والعراقيين المتوحّشين. لا بدّ أن تكون لنا هيمنة. أفضل الطرق للسيطرة على النهرين، بناء السدود. هذا ما فعلناه مع تركيا».
دلائل الكارثة، بين «مشروع إحياء منطقة جنوب شرق الأناضول GAP» التركي/ الإسرائيلي المشترك (مع بدء الحرب على سوريا)، وبين التحوّلات المناخية والاحتلال والفوضى، لا تحتاج إلى هذا الاعتراف. حملتها رياح الغبار العراقي قبل أسبوعين، إلى سواحل لبنان وفلسطين، على طول البادية الشامية.
لكن، يسترسل الصهيوني «المُطْمَئِنّ». لا يعترض على سؤال الصحافي عن برميل النفط مقابل برميل الماء. يضيف: «بخصوص النتائج البيئية والحياتية المترتبة عن المشروع، لكل شيء ثمن. لذلك نحن جاهزون لنقل التكنولوجيا الزراعية لمن يحتاج إليها. نبيع أيضاً المياه الصالحة للشرب، لمن ينقصه المياه الصالحة للشرب».
مقتضب مفيد، عن بعض موجبات التآخي الدائم بين تركيا والمشروع الصهيوني، وكلاهما معاً أو كلّ منهما على حدة، مع الشركات العالمية، للهيمنة على المياه ومصادرها، الزراعة وطرقها والغذاء وإنتاجه.
عمليّاً، يُكَمِّل رجب إردوغان مع المشروع الصهيوني، ما بدأ في عهد سلفيه، الخليفة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ومؤسس الدولة الحديثة كمال أتاتورك. شكّل حكم الأول، الفترة الذهبية لانطلاق الاستيطان اليهودي والهيمنة الزراعية على فلسطين، ونشوء المدارس ومراكز الأبحاث الزراعية الصهيونية. الثاني، أتاتورك، لم يتأخر في توسيع حدود الدولة الناشئة جنوباً. انقضّ على الجزيرة الفراتية العليا، منبع دجلة والفرات في الشمال السوري ـ العراقي، وتوسّع إلى كيليكيا والإسكندرون منبع الأسود وجيحون وسيحون وبحيراتها.
أما إسرائيل، فأمسكت بقمم جبل الشيخ وطبريا ونهري الأردن واليرموك، وتبيع الأردن مياه البحر المحلّاة، المسروقة من الفلسطينيين، وتحرم الفلسطينيين حتى ماء الندى، ولن توفّر سعياً للهيمنة على الحاصباني والليطاني والعاصي باتجاه الشمال، والنيل في الجنوب.
من المسؤول عن تلاشي حرفة الزراعة وتمدّد أحزمة القحط في بلاد الأنين؟ لم يسمّم الأعداء مياه الليطاني بـ47 مليون متر مكعب من المياه الآسنة، ولا الحاصباني والعاصي وآلاف الينابيع وعيون الماء من شمال الجليل إلى شمال حلب. الأعداء لم يحفروا عشرات آلاف الآبار العشوائية والسدود العشوائية، ولم يسلّموا منابع المياه للشركات الدولية فتبيع الحقّ لأهله مجزَّأً في قناني.
في حزيران 1967، شنّ العدو حرباً لقضم طبريا ونهر الأردن، وفي عام 1982 لقضم الليطاني.
في حزيران 2022، يتقاتل العالم لجمع المحاصيل الحيوية، وتحتل الأسواق صادرات إسرائيل وتركيا الزراعية. بينما يقف اللبنانيون والسوريون والأردنيون والعراقيون، عطشى، جوعى، أمام الإعاشة والمياه الشحيحة الفاسدة، بانتظار المياه المحلّاة المسروقة من بحرنا.
إنّه أسوأ الكوابيس، من الفرات إلى النيل!