"إنها كارثة بيئية تقتلنا ببطء" تقول أم محمد القدسي من خلف شباكها المغلق بإحكام في حيّ سينيق، وهي تشير إلى أكوام النفايات المكدّسة التي تعلو مباني كُتب على مدخلها "مركز معالجة النفايات المنزلية الصلبة" مع الشعار التجاري للشركة المشغلة IBC لأصحابها من التابعية السعودية.تحوّل المركز، من مكان لمعالجة النفايات وفرزها إلى مكبّ عشوائي يستقبل يومياً أكثر من 250 طناً من النفايات، تُطمر مباشرة في محيط المعمل من دون المرور بأيّ من الآلات الضخمة التي تحوّلت إلى خردة تباع كحديد كسر بالكيلو، بفعل تقاعس إدارة الشركة وعجزها عن تصليح الماكينات والتوربينات ومفاعل توليد غاز الميتان وغيرها. كلّ ذلك وبلدية صيدا غائبة، أو "مطنّشة"، ربما مراعاةً لجنسية كبار المستثمرين في الشركة، ولعدم إزعاج الوصيّ المحلي المتمثل ببهية الحريري. لكن هذه المراعاة كلفت الصيداويين أكثر من 58 مليون دولار هو مجموع المبلغ الذي دفعته بلديتهم لمعالجة نفايات المدينة خلال السنوات العشر مع العلم أن عقد التشغيل نصّ على معالجة هذه النفايات مجاناً.

الحياة في سجن
الروائح المنتشرة في سينيق كريهة جداً ويتحكم بها اتجاه الريح لا سيّما أن النفايات المتراكمة ملاصقة للبحر وباتت تعلو سطحه بعشرات الأمتار. في مستشفى الجنوب (شعيب) القريب من المعمل، يقف الحارس على المدخل واضعاً يده فوق أنفه فوق الكمامة، "اليوم دورنا بالرائحة، الهواء جنوبي يعني سيصيب المعمل ويحمل معه الروائح النتنة والجراثيم". يدلّنا إلى شبابيك المبنى المؤلف من خمس طبقات "لا نجرؤ على فتح طاقة صغيرة لأن الرائحة ستصل عندها إلى المرضى وإلى العيادات وحتى إلى غرفة العمليات".
تذكر أم محمد القدسي، التي تقطن في الحيّ منذ 45 سنة، أنه "كان حياً نموذجياً، وكنا ننعم بهواء البحر ونقضي سهراتنا الصيفية في الجنينة، نشمّ رائحة زهر الليمون والياسمين والأضاليا، حتى ابتلينا ببناء معمل المعالجة على بعد عشرات الأمتار من بيوتنا. يومها لم يبقَ مسؤول إلا وأطلق لنا الوعود الكاذبة عن أن المعمل سيكون نموذجياً وأننا لن نشعر بوجوده. قالوا إنّه سيكون نظيفاً أشبه بمستشفى! فإذا به مركز وباء". القدسي مصابة بالربو، ولا تستبعد أن يكون المعمل الجار هو سبب مرضها،"عندما تشتدّ الروائح أصل إلى حدّ الاختناق فأضطر لمغادرة الحيّ، وكذلك يفعل الجيران الذين يلجأون للمبيت عند أولادهم". وتؤكد ازدياد حالات الإصابة بالسرطان في الحيّ، وارتفاع حالات التهابات الرئة عند الأطفال، مطالبة بلجنة مختصة لإجراء بحث علمي وإعلان نتائجه.

الحيّ المنكوب
الجارة الأقرب للمعمل – المكبّ من آل الصياد، وكي لا تغامر بفتح شباكها تصطحبنا إلى سطح بيتها، وللمصادفة ها هي الجرافة تحمل النفايات المفرّغة للتوّ من الشاحنة وترفعها إلى أعلى جبل نفايات بين خمسة جبال متجاورة. على مرأى ومسمع من الصياد، تمدّ البوكلين "زندها" وترفع حمولتها من نفايات المنازل (خليط بقايا الطعام والزجاج والبلاستيك والحديد والقماش والحفاضات) فيما عصارتها تنهمر، لتطمرها في الجبل. وكلما تكوّمت عادت البوكلين لتفلشها. تصرخ الصياد حتى يكاد يسمعها سائق البوكلين، تكيل الدعاوى على كلّ من تسبّب بنكبة حيّها، وتؤكد أن المعمل توقف منذ عدة أشهر عن معالجة النفايات التي تصله وتحول من معمل إلى مكب، "الرائحة تقتل. ننام والرائحة في أنوفنا. يزورني أحفادي، فيبقون حبيسي الغرفة والنوافذ مغلقة، صاروا يكرهون زيارتنا. كلّ هذا عدا عن البرغش والجرذان المنتشرة بكثافة". وبالفعل، يمكن مشاهدة الجرذان تتنقل في الزواريب في غياب أيّ دور للبلدية في مكافحتها، أما الحشرات الطائرة فتترك آثار لسعاتها على الجلد وغالباً ما تؤدي إلى التهابات جلدية تحتاج لمعاينة طبيب "الذبابة هنا تعقص وتترك حبّة متورّمة مكانها" تؤكد الصياد. تضيف "صرنا نكره فصل الصيف لأننا محرومون من فتح شبابيك البيت وفي الوقت نفسه نعجز عن تشغيل أجهزة التكييف خلال موجات الحر توفيراً في فاتورة الاشتراك بالمولد الخاص".

تجارة كاسدة
يصبّ كرم سعد، صاحب بسطة خُضَر على جسر سينيق، جام غضبه على المعمل والبلدية والمنظومة كلها، "كلّهم حرامية. لا عم يعالجوا ولا عم يفرزوا، يطمرون الزبالة كما هي". زبائن بسطة كرم لا يشترون منه، بل يفرّون هاربين من الروائح المنبعثة من المعمل – المكبّ، حاله كحال بائع السمك في حي المسلخ على بُعد كيلومترين من المعمل الذي يتهمّه زبائنه بأن أسماكه غير طازجة، وبأن الرائحة الكريهة المعششة في المكان منبعثة منها "يا عمي سمكاتي طازة من ميرة صيدا، والله العظيم الرائحة مش من السمك الريحة من المكبّ". يمازحنا أحد عمال المدينة الصناعية المجاورة "صرنا إذا شممنا رائحة عطر نحسبها رائحة كريهة، تعودنا هون على رائحة الزبالة والقرف!".
قالوا إنّ المعمل سيكون نظيفاً أشبه بمستشفى فإذا به مركز للأوبئة


كان من المفترض، وفق العقد الموقع بين بلدية صيدا وIBC، أن ينير المعمل الطرق المجاورة له من الكهرباء التي يولّدها من غاز الميتان المستخرج من النفايات، لكن المنطقة والحيّ المجاور غارقان في الظلام ليلاً ما يسهّل ارتكابات الإدارة بطمر النفايات من دون معالجة. يتساءل سعد "هل يعقل أن تكون بلدية صيدا غافلة عما يحدث؟" ويجيب بنفسه "كلّن دافنينو سوا، كلّهم شركاء بالجريمة"، مذكّراً باقتحام المعمل قبل سنوات من قبل عشرات المحتجين يتقدّمهم النائب أسامة سعد، "عندما دخلنا رأينا العجائب، يومها تدخلت الفعاليات لإدانة اقتحامنا للمعمل وانبرت نائبة المدينة السابقة للدفاع عن نزاهة الشركة المشغلة والتغطية على عيوبها التي وصلت اليوم إلى حدّ الجريمة، فسينيق منطقة منكوبة وجيران المعمل – المكبّ يموتون ببطء".



أغلى مجرور في العالم!
ما يفاقم معاناة جيران المعمل مجاورتهم لنهر سينيق الذي استُبدلت مياهه بالمجاري المكشوفة الجارية، الأمر الذي لوّث عدداً من الآبار الجوفية، وكذلك وجود محطة لتكرير مياه الصرف الصحي لشبكات صيدا والجوار بجانب مبنى معمل النفايات. لكن المحطة كزميلها المعمل، شبه متوقفة، ويقتصر العمل فيها على استلام المجارير الآسنة وإعادة ضخّها في البحر من دون أي معالجة أو ترقيد. هذه "الخدمة" تتمّ مقابل مليون دولار سنوياً تدفعها مصلحة مياه لبنان الجنوبي، الأمر الذي دفع برئيسها إلى وصف المحطة بـ"أغلى مجرور في العالم!".