"قدي هيدي؟". "وهيدي؟". "وهاي العلكة؟". ببراءة وعفوية طفوليتين تحاول التوأم شهد وغزل التعرّف إلى أسعار عدد من السكاكر، ومقارنتها مع ما تملكان من مال. لا تتناسب أسعار "كيس التشيبس" وعبوة عصير "مستر جوسي"، وعلكة صغيرة مع مبلغ العشرة آلاف ليرة الذي في حوزة كلّ منهما. تحتسب كلّ من التوأم (7 سنوات) ما اختارتاه على أصابعهما تارةً، وتستعينان بوالدتهما تارةً أخرى لتنتهي جولة الاستفسارات والحسابات والأخذ والردّ وتقتصر المشتريات على "سحبة" وعلكة والمغادرة مع نظرة عدم رضا. المشهد يتكرّر مرات ومرات يومياً كما تؤكد سعاد حمية صاحبة دكان صغير في بلدة طاريا. "الأسئلة ذاتها تتكرّر، والطفل الذي كان يجد ما يشتريه بألف ليرة، لم تعد الخمسة آلاف تشتري له لوح بسكويت صغيراً". من ثلاثة رفوف صغيرة وطاولة سكاكر بسيطة في غرفة لا تتعدى الثلاثة أمتار مربعة تتكوّن دكانة حمية، التي تسترزق منها ببضعة أصناف تُعتبر الأساسية لأبناء أحد أحياء البلدة. خبز وكعك ودخان ومعسّل ومساحيق غسيل وجلي، مع تشكيلة متنوّعة من المعلّبات و"كراكر" الخيطان بمختلف الألوان و"الإبر" الصينية المختلفة الأحجام، بالإضافة إلى أنواع السكاكر والبزر والشوكولا بأسمائها التركية والإيرانية والمصرية الصنع، وفي غياب لكلّ الأنواع التي كانت تشهد رواجاً كـ"التويكس" و"الغالاكسي" و"السنيكرز" وغيرها من المنتجات التي ارتفعت أسعارها بشكل لافت، فشهدت تراجعاً عن شرائها من التجار.

لا خيار إلا الإقفال
دكاكين الأحياء في القرى وأزقة المدن ما زالت موجودة، لكنّ الأزمات القاسية والمتتالية التي تعصف بها باتت تهدّدها بالإقفال. وإذا كانت حمية أبعدت هذه الخطوة عنها شهراً، فقد سبقتها زينب إليها. صاحبة الدكان الصغير في إحدى قرى البقاع الشمالي "استسلمت للواقع" بحسب قولها. الدكان الذي كان يوفر لها مدخولاً متواضعاً خلت رفوفه الصغيرة من السلع وكذلك البراد، ولم يتبقّ إلا بعض السكاكر وكيس من بزر دوّار الشمس، "خلّص رح سكر بعد ما بيع كل اللي موجود... ما رح اشتري شي بعد. الغلاء خرب بيوتنا وارتفاع سعر الدولار وانخفاضه لا يساعداننا على معرفة كيف سنبيع، وموسم الصيف الذي ينتظر فيه الزبائن البوظة والعصير حُرمنا منه بسبب انقطاع الكهرباء بشكل مستمرّ وجشع أصحاب المولدات، وفي الوقت الذي يشتري فيه الزبون بالدين، التجّار يطالبون بالكاش".
يشرح سعيد عثمان صاحب محل في مدينة بعلبك لـ"الأخبار" أن محالّ بيع المواد الغذائية الصغيرة "تنازع من أجل البقاء منذ أشهر نتيجة أزمات أنهكت أصحاب تلك المحالّ وسلبتهم الزبائن لصالح السوبرماركت الكبيرة". يعدّد المشاكل نفسها: دولار وكهرباء وشروط التجار، "كلّها عوامل تشكل عبئاً على أصحاب الدكاكين الصغيرة وتفرض واقعاً جديداً لا يمكن التماشي معه، فأزمة انقطاع كهرباء الدولة وعدم القدرة على تأمينها عبر الاشتراك تطيح ببعض السلع التي نعوّل عليها بشكل أساسي كالبوظة والألبان والأجبان والعصائر والمياه الغازية على أشكالها وحتى الشوكولا، الأمر الذي انعكس سلباً على حركة الزبائن ودفعهم للانتقال إلى المحالّ الكبيرة التي يتوفر لدى أصحابها القدرة على تشغيل مولداتهم الخاصة".
يستبدل الزبائن الفقراء المساعدات الغذائية بموادّ يحتاجون إليها أكثر

ليس هذا وحسب يؤكد عثمان أن عدداً لا بأس به من الدكاكين الصغيرة أقفلت أبوابها في مدينة الشمس وعدد من القرى لعدم توفر القدرة لدى أصحابها على مجاراة الأزمات، "الزبائن الذين لا يزالون يتعاملون معنا محدودون، إما وفاءً وإما للاستدانة لأن السوبرماركت لا تسمح بذلك". ويلفت إلى أن زبون الدكان "يكاسر بالسعر ما لا يستطيع أن يقوم به في المحال الكبيرة. هناك يتوجب عليه الدفع فقط، أما عندنا فأسئلة وإحراج وديون غرقت بها الدفاتر والدفع بالقطارة شهرياً".

المقايضة
يذهب علي الحاج حسن صاحب دكان أبعد من ذلك، فيشير من جهة إلى مشكلة ارتفاع أسعار الإيجارات "دون رقيب أو حسيب من الدولة ودون احترام للقوانين"، وإلى اعتماد الزبائن الفقراء على مبدأ المقايضة، خصوصاً أن جمعيات وجهات مانحة توزّع مساعدات غذائية بشكل دوري وغالبيتها يتركز على الحبوب وبعض المعلبات ما يدفع الفقراء الى "اللجوء للدكاكين في الأحياء والقرى لاستبدالها باحتياجات أكثر إلحاحاً لها، صارت المساعدات مكدّسة عندهم وعندي، وما فينا نعتمد على المقايضة خاصة أنك عم تتعامل مع تجار وبدك تدفع بالدولار، ما فيك تقوله خود كيس حمص وأعطيني بداله كيس "yes" أو "unica".
الدولار بأسعاره المتفاوتة ما بين صيرفة وسوق سوداء ودولار التجار، فرض واقعاً قاسياً على أصحاب المؤسسات التجارية المتواضعة، فيما تخلّت الدولة عن خدماتها الحيوية بشكل واضح لا لبس فيه، ما دفع بأصحاب دكاكين ومحالّ تجارية "على قد الحال" إلى الإقفال قسراً، في حين أن بعضهم الآخر ينتظر، ويبدو أنهم لن يبدّلوا كثيراً عن خيار الإقفال.