ما معنى إجراء الانتخابات النيابية إذا لم تنعكس نتائجها على الواقع السياسي؟تنتظر فرنسا نتائج الدورة الثانية للانتخابات التشريعية لتشكيل الحكومة، كي يكتمل شكل السلطة التنفيذية بعد إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون. وهذا من بديهيات تشكيل السلطات في كل الدول الديموقراطية. أما في لبنان، فكان يفترض بعد إجراء الانتخابات النيابية أن تترجم الخلاصات بتغيّر ما في واقع الحياة السياسية ومقاربة تشكيل السلطة التنفيذية. لكن الصورة الحالية لا تعكس ذلك مطلقاً.
لم يساهم تأخير رئيس الجمهورية موعد الاستشارات النيابية، بعد استنفاد الحجة بالانشغال في ملف الترسيم البحري واكتمال الورشة الانتخابية داخل البرلمان، في تسريع وتيرة إجراء مشاورات سياسية، لتمهيد الطريق لاختيار الرئيس المكلف. بل إن المهلة الفاصلة بين 15 أيار و23 حزيران حملت مزيداً من الرسائل السياسية، على قاعدة أن ثمة فريقاً لا يزال يؤكد أن له الحق في رسم مسار الأشهر الأربعة الباقية من عمر العهد، ولو أنه لم يحصل على الأكثرية النيابية، في مقابل فريق، أو أفرقاء، لا يزالون يتلمّسون الطريق لتثبيت نتائج الانتخابات.
ما جرى في انتخابات المجلس النيابي، رئيساً ونائب رئيس وهيئة مكتب المجلس واللجان، أظهر أن القوى السياسية لا تزال تتصرّف كأنها لا تزال قبل الانتخابات. فأداء التيار الوطني الحر في تشكيل الحكومة وحتى في ملف الترسيم البحري الذي يتقدّم به أحياناً على رئيس الجمهورية، يعكس إصراراً على إظهار نفسه على أنه لا يزال صاحب القرار الأول والأخير، محدداً شروطه ومعركته حول هوية الرئيس والحقائب. والمشكلة أن معارضيه يتصرّفون على أنه كذلك. لا القوات اللبنانية ولا الكتائب ولا المستقلون، وحكماً ولا «التغييريون» (عدا عن استعراضهم الميداني في ما يتعلق بالترسيم)، يتعاملون مع واقع الحال على أنهم حققوا فوزاً انتخابياً متقدماً على الموالاة، بل يتصرفون كما لو أن العهد لا يزال يملك كل أوراقه التي يستخدمها حتى اللحظة الأخيرة.
ما حصل في انتخابات المجلس النيابي كان يفترض أن يكون جرس إنذار للقوى المعارضة التي ترى أنها خاضت معركة في نيابة رئاسة المجلس وعارضت «تزكية» رئيس المجلس. لكن محاولة قلب معادلة 65 نائباً لمصلحة رئيس للحكومة تؤيّده القوى المعارضة، لا تزال تصطدم بكثير من المعوقات، وببطء الحركة السياسية، ولا سيما من جانب «التغييريين» الذين تحاول القوى الحزبية استيعاب كيفية التعامل معهم. فخريطة تشكيل المجلس النيابي هي التي يجب أن تكون القاعدة التي على أساسها تتم مقاربة تسمية رئيس الحكومة أو حتى وضع الصيغ الأولية لطريقة تشكيلها، وإلا سيكون المشهد مماثلاً لما كان عليه منذ تأليف حكومة الرئيس حسان دياب، وتباعاً حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية.
لكن العقبات كثيرة أمام التوصل الى اسم موحّد للمعارضة التي تراهن عبثاً بعض شخصياتها على أن نجاحها في توحيد صفوفها سيمكّنها من أن تحرم العهد من حكومته السياسية الأخيرة. هذه العقبات تتمثل في عدم وحدة الصف السني في اختيار اسم الرئيس المكلف. ويشكل ذلك تحدّياً أساسياً حين يستمر نادي رؤساء الحكومات السابقين في التأثير ولو أقلّ مما كان سابقاً. وقد لا يصبّ هذا التأثير معطوفاً على حركة نواب سنّة متفرّقين، في مصلحة تسمية شخصية سنّية يتفق عليها جميع المعارضين، افتراضاً بأن هذا الاسم هو الرئيس نجيب ميقاتي.
وفكرة 65 صوتاً بمعناها الرمزي في تسمية الرئيس المكلف، عليها أن تأخذ في الحسبان كذلك وضع كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي التي ستكرر تجربة انتخاب الرئيس نبيه بري في اختيار ميقاتي بدلاً من أيٍّ من المتداولة أسماؤهم في بعض صفوف المعارضين. أما «التغييريّون» الذين يطرحون أسماء عشوائية، فلا يزالون منذ تجربة انتخاب نائب رئيس المجلس في تعثر مستمر في تحديد ما يريدونه فعلياً، عدا عن وصولهم الى المجلس النيابي.
القوات والكتائب و«المستقلون» و«التغييريّون» يتصرّفون كما لو أن العهد لا يزال يملك كل أوراقه

وهذا التعثر يربك حركة المعارضين بعدما اعتقدت القوى الحزبية والسياسية المستقلة أنها قادرة على استيعابهم في معركة موحدة لاختيار رئيس الحكومة المقبل. والنقطة الأخيرة تتمثل في القوى المستقلة التي لبعضها حسابات خاصة في اختيار اسم الرئيس المكلف قد لا يصبّ في مصلحة الاتفاق مع القوات التي ستكرر تجربتها بعدم طرحها وحدها اسماً قبل الكلام مع جميع المعارضين أو الكتائب، وحتى مع «التغييريين».
لم يبق أمام جميع هؤلاء سوى أسبوع لتحديد خريطة طريق تضعهم أمام خيارات حاسمة، واضحة كما وضوح تسميتهم العلنية لاختيارهم اسم الرئيس المكلف، وليس ورقة في صندوق. ولأول مرة منذ زمن، لن يكون اسم الرئيس المكلف معروفاً سلفاً كما جرت العادة مع الرئيس سعد الحريري أو ميقاتي أو أسلافهما. وتحدّي المعارضة يكمن في قدرتها على خلق دينامية حول اسم الرئيس المكلف، وسط رهان خصومها على أنها ستخسر مرة أخرى، بناءً على معطيات تشرذمها الذي لن ينتهي قريباً.