«أكثر الوثائق التي نوقّع عليها هذه الأيام هي وثائق الطلاق والوفيات وإفادات السكن من أجل جوازات السفر» يقول أحد المخاتير معلّقاً بسخرية على وضع البلد: «الناس إما عم تطلّق أو عم تموت سكتة قلبية، أو إذا حظها منيح... بتسافر».في كلّ هذه الحالات، وغيرها، يبقى الناس بحاجة إلى عمل المختار. والأخير بحاجة إلى الموظفين في الدوائر الرسمية، الذين باتوا يداومون في مكاتبهم بشكل متقطّع وضمن إمكانات محدودة.لا يشعر من يدخل مكاتب المخاتير بوجود أزمة، فالازدحام المعتاد ما زال على حاله. والمعاملات «المستعجلة» تنتظر المختار ما إن يفتح باب مكتبه، أو حتى بيته. ثمّة طلبات لا يمكن الاستغناء عنها، غير أن الأعمال هذه الأيام لا تجري في مكاتب المخاتير بسلاسة. يعرقلها بطء سير المعاملات في دوائر النفوس بالإضافة إلى غياب الأوراق الرسمية وفقدان الطوابع. «أكثر الناس يسألوننا عن المعاملات أين أصبحت في حين أن غالبية الدوائر الرسمية تعمل لثلاثة أيام وبموظفين أو ثلاثة بالكثير»، يقول المختار زهير غاريوس.

لا مواعيد للتسلّم
الأزمة الاقتصادية قلّصت الدوامات في عدد كبير من دوائر الدولة، بشكل لا يلبي ضغط الأعمال. ففي البقاع تفتح دوائر النفوس ثلاثة أيام فقط، أما في بيروت فتفتح عملياً لأربعة أيام، لأن يوم الجمعة مخصّص لتخليص معاملات إدارية عالقة. في بعبدا، وهي دائرة تتعرّض لضغط كبير يعمل ثلاثة موظفين فقط إلى جانب مأمور النفوس بعدما ترك ثلاثةٌ آخرون البلد. نتيجة لذلك «فإن إخراج القيد الذي كان يحتاج إلى ثلاثة أيام ليصدر صار يستغرق أسبوعاً». أما في دائرتَي صور وصيدا فالأمور أصعب، حيث تحتاج وثيقة القيد على سبيل المثال إلى 12 يوماً وأحياناً إلى أكثر لتصدر، والسبب تقاعد مأمور النفوس، أما الموظفة البديلة مع فريقها المؤلف من شخصين فلا يلبي هذا الفريق ضغط الطلبات في هذه الدائرة الكبيرة.
لم يعد المخاتير، كما معقّبو المعاملات، يحدّدون موعداً لإنجاز المعاملة، إذ «لا يمكن توقع المفاجآت نظراً إلى الفوضى الطاغية، والتي تبدأ من غياب الأوراق، مروراً بتغيّب الموظفين، وصولاً إلى انقطاع الكهرباء أو فقدان الطوابع البريدية».
على سبيل المثال، نقص الأوراق في المديرية العامة للأحوال الشخصية انسحب على عدد إخراجات القيد التي يمكن أن تُسلّم «فإذا كان هناك 15 طلب قيد في دائرة بيروت تُعطى 5 أوراق جديدة فقط». ورغم الحلّ الذي قدّمه المدير العام للأحوال الشخصية، العميد الياس خوري، بتصديق القيد القديم، إلا أنّه لا يغطي كلّ الوثائق، فإنجاز القيد العائلي لمولود جديد يستلزم ورقاً جديداً، وكذلك معاملات تنفيذ الوفاة والطلاق والزواج، وهذا ما يتسبّب في تأخير كثير من هذه الوثائق نتيجة نقص الأوراق، بحسب المختار فايز سليم.

ارتفاع الكلفة
ليست الفوضى الإدارية وحدها ثؤثر على عمل المخاتير، بل المصاريف الإضافية التي بات الناس يتكبّدونها. يعدّدون: أجرة المكتب واشتراك الإنترنت والكهرباء وراتب السكرتيرة وكلفة المطبوعات. هذا ما دفع إلى ارتفاع أجرة المعاملات، من دون تحديد معيار موحّد للأسعار. يسمح القانون للمخاتير باستيفاء رسوم محددة، لكن الحديث مع عدد منهم لا يشي بأن ثمة قوانين تلزم بتعرفة محدّدة لأيّ معاملة، فلكلّ منها أجرتها التي يستنسبها المختار.
يوضح المختار سليم أن «إفادة حصر إرث بطابعين سعرها 40 ألفاً لكن ثمة من يتقاضى بدلاً عنها 300 ألف ليرة وأكثر. وكلفة إفادة السكن 25 ألفاً، فيطلب البعض 75 ألف ليرة. أما استصدار بيانات القيود (الإفرادي والعائلي) التي كانت تكلف 10 آلاف ليرة قبل الأزمة، فإنها تكلف اليوم في دائرتي بعبدا وبيروت 30 ألف ليرة، لكنّ بعضهم يتقاضى أجرها مئة ألف ليرة!». كما تختلف رسوم المعاملات حسب المنطقة، فعلى سبيل المثال فإن إفادة السكن في الضاحية تكلفتها 30 ألف ليرة لكنها تصل في مار تقلا إلى 100 ألف. وحتى في المنطقة نفسها يقيس المختار زبائنه فلا يأخذ من الأجرة نفسها مراعياً أوضاعهم المتفاوتة.
لم يعد المخاتير يحدّدون موعداً لإنجاز المعاملة بسبب تقليص الدوامات


ويبرّر المخاتير الذين يتقاضون أسعاراً مرتفعة، حتى عندما يقتصر الأمر على توقيع ورقة، بأنهم هم من يطبع جميع الإفادات والوثائق وطلبات القيود على نفقتهم، «ففي كلّ الدوائر الرسمية لا تجد طباعة ورقة أقل من 5000 ليرة، وذلك لأن درام المحبرة يتخطى سعره 90 دولاراً فكلّه عم يلحق بعضه، وماعون الورق (500 ورقة) كنا نشتريه بـ 5000 ليرة، صار سعره اليوم 110 آلاف ليرة» بحسب أحد المخاتير.

معقّبو المعاملات
تطاول الكلفة أيضاً «الرشوة» التي بات يتوجّب دفعها في بعض الدوائر لتسريع المعاملات. وهذا ما يؤكده معقّبو المعاملات: «هذه بدك تك عليها لتمشي». هؤلاء ازدهرت مهنتهم في السنتين الأخيرتين بسبب ارتفاع أسعار المحروقات. أبو عمر، أحدهم، يعمل في دائرة البقاع. يحمل بريد المعاملات التي يجمعها من المختار ويتقاضى أتعابه لقاء كل معاملة. هذه المهنة بالنسبة إليه «كسّيبة» للطرفين: المواطن والمعقّب، حيث تُنجز المعاملة للمواطن وهو جالس في بيته، من دون أن يتكبّد مصاريف الانتقال إلى دائرة النفوس. يتقاضى أبو عمر 150 ألف ليرة لقاء المعاملة الواحدة، وأحياناً أكثر، حسب المعاملة وما تقتضيه من طوابع.
بالنسبة إلى أحد المواطنين فإن دوائر الدولة تسودها اليوم السوق السوداء فلا شيء بدون «برطيل. أحياناً نتعاطف مع الموظف الذي لا يساوي راتبه اليوم 50 دولاراً فندفع له 50 إلى 100 ألف ليرة من منطلق الشعور معه وبحالته السيئة».
وعلى قاعدة «بيتعوّدوا»، يبدو أن الكثيرين تآلفوا مع الأرقام الكبيرة التي تُطلب منهم، فيدفعون وكلّ همّهم إنجاز المعاملة في أسرع وقت... خصوصاً إذا كانت توصل إلى المطار. الطريف، أن المعاملة المجانية الوحيدة لدى المختار هي طلبات جواز السفر، لأن المختار يحصل عليها مجاناً من الأمن العام.