ما خلا حالات قليلة مجرّبة في العقد ونصف العقد الاخير، تسمية رئيس مكلف تأليف حكومة ليست معضلة في ذاتها. المعضلة الفعلية تكمن في الخطوة التالية، وهي تأليف الحكومة. المعتاد ان الاتفاق على رئيس مكلف هو الاتفاق على تأليفه الحكومة اياً تكن العقبات التي تعترضه. وهذه لم تنشأ وتصبح مستعصية الا منذ عام 2008، في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة. قبل ذلك، ما بين عامي 1992 و2005، كانت التسمية اسهل السبل، واقربها منالاً. كذلك التأليف الذي يليها. يُعرف اسم الرئيس المكلف في موازاة الاتفاق على مواصفات الحكومة الجديدة، والقوى الممثلة فيها، واحجامها وحصصها قبل اسقاط اسماء المستوزَرين. اولى عقبات التكليف غير المسبوقة كانت عام 2011 عندما تنافس، للمرة الاولى منذ اتفاق الطائف، مرشحان هما الرئيسان نجيب ميقاتي وسعد الحريري. فاز الاول بفارق 8 اصوات، فألف الحكومة. ما بعد اتفاق الدوحة، ما خلا سابقة 2011، عَبَرَ التكليف سريعاً مع حكومات الرؤساء فؤاد السنيورة والحريري وميقاتي وتمام سلام. في العهد الحالي كثرت الصعوبات منذ منتصفه، ما ان استقال الحريري على اثر حراك 17 تشرين الاول 2019. تعددت اسماء المرشحين للتكليف، والغى بعضها بعضاً، وصولاً الى حكومة تصريف الاعمال الحالية برئاسة ميقاتي.
التكليف الجديد المرجّح لرئيس حكومة تصريف الاعمال، للمرة الرابعة بعد اعوام 2005 و2011 و2021، يبدو الاسهل في ما كان مر. لا مرشح سواه علناً على الاقل ينافسه. لا شروط واجبة وحتمية للتكليف كأن يكون زعيم السنّة، او الاقوى تمثيلاً في الطائفة، او رئيس كتلة نيابية وازنة، او في اسوأ الاحتمالات ان كون نائباً. اسقط الحريري القيود هذه يوم اخرج نفسه من المعادلة الوطنية. النواب السنّة الحاليون مشتتون، موزّعو الولاء والانتماء، محتارون، ما يضاعف حظوظ ميقاتي الاكثر تمرّساً من بينهم دونما ان يكون نائباً، او تنطبق عليه المواصفات تلك.
في المرات الثلاث رئيساً للحكومة، اثنتان منها على رأس حكومة انتخابات نيابية عامي 2005 و2021. عمرها اشهر قليلة. كما عام 2005، كان عليه ان يسهر على انتقال موازين القوى في البلاد، على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من حقبة الى نقيضها، يدعى اليوم الى تجربة مماثلة هي امرار الوقت القصير الفاصل عن استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية.
لأنه المستفتَى الوحيد للمنصب، يحلو للرجل ان يُملي شروطه ويتدلع، ويحاول ان يكسب الرهان، ويسعه التأكد من انه قادر على تحقيقها:
اولها، تجنّب استعادة التجربة الصعبة للرئيس تمام سلام ما بين عامي 2014 و2016، في خلال شغور منصب رئيس الجمهورية وتولي حكومته صلاحياته، على رأس حكومة وحدة وطنية انفجرت من داخلها مرة تلو اخرى. راح كلٌ من الوزراء الـ24 يعتبر نفسه قطعة من رئيس جمهورية. اذا هؤلاء جميعاً يقترعون على بذلة الرئيس، وينتزع كلٌ منهم جزءاً منها، كِمّاً او جيْباً او زِرْاً او بطانة. جميعهم كانوا البذلة وليس من بينهم خيّاط. لا احد يملكها كي يرتديها. بذلك تعذّر على حكومة سلام ان تحكم بلا نزاعات على الصلاحيات، وتوقيع الوزراء الـ24 جميعاً على كل ما يصدر عنها، بينما هم منتمون الى افرقاء التناحر الداخلي. ما يريده ميقاتي ان لا يجد نفسه في مأزق مماثل.
ثانيها، افصح الموقف الاخير لميقاتي من المطار الاربعاء، عن انه قد يلجأ الى توسيع مفهوم تصريف الاعمال يتخطى نطاقه الضيق وتالياً عقد جلسات لمجلس الوزراء عند الضرورة، عن احتمال غير مستبعد هو تأخر تأليف الحكومة الجديدة، اذا حاول الافرقاء المحليون فرض شروط عليه لن يستجيبها. مؤدى ذلك، مع الوصول الى المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وربما تعذّر حصوله، تأهيل حكومة تصريف الاعمال سلفاً للمرحلة المقبلة كما لو انها حكومة عاملة. ما دامت المادة 62 من الدستور تنيط بمجلس الوزراء وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية متى شغر منصبه، لا يسع حكومة تصريف الاعمال الامتثال للمادة 62. في احسن الاحوال، اذا اخفق تأليف حكومة جديدة، يقتضي بحكومة تصريف الاعمال ادارة الشغور المفترض بدءاً بعقد اجتماعات لمجلس الوزراء.
ما توخته عبارة ميقاتي انه مستعد لتأليف حكومة جديدة بشروطه هو، مقدار استعداده لتعويم ظاهري لحكومة تصريف الاعمال متى فشل الاتفاق على تلك، وتالياً معاودتها اجتماعاتها كأنها لم تستقل. لأنه المرشح الوحيد للتكليف، الرجل سيد ملعبه.
ثالثها، اسهل الشروط واكثرها تعقيداً في الوقت نفسه. لن يؤلف حكومة الا على صورة حكومة تصريف الاعمال، ان لم تكن نفسها. الاصح انه لا يريد سواها. ابدى الاستعداد للموافقة على ابدال اسم او اثنين او ثلاثة حداً اقصى من وزرائها الـ24. اما ما يرفض الخوض فيه، فهو ابدال الحقائب، وكذلك اعادة توزيعها على الطوائف والمذاهب والمراجع المعنية بالحكومة المستقيلة الحالية. اي اعادة نظر في حقيبة واحدة تخرب حجارة الدمينو كلها، وتجعل الحقائب كلها عرضة لاعادة نظر، كما اعادة توزيعها على الطوائف والمذاهب والقوى. تبديل الحقائب اسوأ وقْعاً وانذار بأن لا حكومة جديدة تبصر النور.
ما هو في صدده الابقاء على مواصفاتها: حكومة تكنوقراط، غير سياسية في كل حال، لا احزاب تدخل اليها، من 24 وزيراً. يصير الى الاتفاق مع رئيس الجمهورية ميشال عون على اصدار مراسيمها، نسخة مطابقة عن تلك التي صدرت في 10 ايلول 2021. بذلك لا تتجاوز المدة الفاصلة ما بين التكليف والتأليف ـ وهو في الواقع اعادة الحياة الى جثة ـ سوى ايام قليلة. ما خلا هذا الخيار تستمر حكومة تصريف الاعمال الى ما شاء الله. الى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، او ما بعد شغور رئاسي لا يسع احد التكهن بعمره.
اما الوزيران المفترض انهما باتا حمْلاً ثقيلاً على حكومة تصريف الاعمال ورئيسها خصوصاً، ولا يمانع ميقاتي في استبدال مرجعيتيْ تعيينهما اياهما بسواهما، فهما وزير المال يوسف الخليل ووزير الاقتصاد والتجارة امين سلام. المعني بتوزير الاول رئيس البرلمان نبيه برّي، والمعني بتوزير الثاني رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. لا يلحّ على ابدالهما، بيد ان الاستغناء عن كليهما يريحه.
الابقاء على حكومة 2021 يوصد الباب على توزير نواب جدد


رابعها، ليس اصرار ميقاتي على صورة الحكومة الحالية، بوزرائها التكنوقراط، سوى استبعاد اي فكرة تقول بادخال وزراء جدد اليها، من خارج القوى المساهمة في ما مضى في تأليفها. لذلك مغزيان: احدهما ان لا دخول للنواب المسمّين تغييرين الجدد اليها وهم يمثلون كتلة من 13 نائباً، يملكون حق مشاركتهم فيها. والآخر وهو اصعب تقبّلاً، مفاده ان حكومة ما قبل الانتخابات تعود الى السرايا ما بعد اجرائها. في ذلك تجاهل كامل لما انبثق من الانتخابات هذه، ونتائجها والقوى الجديدة التي دخلت الى البرلمان، كما لو ان الانتخابات لم تحصل، ولم يحدث اي تغيير ـ وإن شكلي ـ في واقع البلاد.
مع ان فريقاً كحزب القوات اللبنانية سهّل على ميقاتي التمسك بحجته، بعدما اعرب عن عدم رغبته في المشاركة في الحكومة الجديدة، وهو يتزعّم كتلة مسيحية من 19 نائباً ويُعدّ اكبر الفائزين في الاستحقاق المنصرم، يتمسك باسيل بحكومة سياسية تتمثل فيها القوى والاحزاب مباشرة، على صورة حكومة سلام، في محاولة وقائية مبكرة تتحوط للشغور الرئاسي الذي يسلّم بوقوعه الافرقاء جميعاً.