الجوع وقود الانحراف
«أنا إنسان عاش التشرد.. أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني؟ أن أكتب عن الفراشات؟».
بهذه الكلمات يدافع الكاتب المغربي محمد شكري عن سيرته الذاتية «الخبز الحافي» (1982). سيرة تُلامس القارىء لصدقها، مواقف حقيقية جريئة من طفولته الجانحة عرضها شكري، بدءًا من عمله الشاق في العاشرة من عمره، إلى هروبه من بيت والديه بسبب قسوة أبيه وغضبه الحاد الذي أدى به إلى قتل ابنه الأصغر، وصولًا لقضاء معظم وقته متنقلًا في الشوارع والحانات مع السكارى والمومسات، وكيف اضطرّ أن يقتات من القمامة، مقارنًا بين أكوام قمامة الأحياء المغربية التي أنهكتها المجاعة وقمامة الأحياء الأوروبية التي قد يعثر فيها على «كنز».
كان والد شكري مصدر شقائه المرعب وأحد أسباب جنوحه، إضافة إلى الفقر المتزامن مع وجود الانتداب الإسباني في المغرب آنذاك. عرّى شكري مجتمعه القاسي وفضح الواقع الذي يعانيه الأحداث في العالم السفلي الذي يسعى رجال السياسة والإعلام إلى طمسه. كما كشف العلاقات الحقيقية لتسلُّط الأقوياء على الأحداث الفقراء، بلا رحمة، مثلما استغلّه رجل عجوز جنسيًا مقابل مبلغ زهيد يسدّ به جوعه.
في لحظة مصيرية قرر شكري الخروج من الوحل الذي نشأ فيه، ليتعلّم القراءة والكتابة في العشرين من عمره، ويصبح بعدها من أشهر الكتّاب العرب، مؤكدًا أنّ هناك دومًا سبيلًا للخلاص والاستقامة.



جنوح «الكُلّة»
في وسط البلد، يحصل «مصطفى» - الراوي - على تمويل من جهات مانحة أجنبية (منظمات دولية ومهرجانات سينمائية) مهتمة بأطفال الشوارع، تدفعه للبحث عن صبي يُدعى «كريم» لم يدخل المدرسة كسائر أخوته، ولم ينجح في اكتساب أيّ حرفة. فأصبح الشارع ملجأه، وتزعّم مجموعة من «شمّامي الكُلّة» (مادة لاصقة يتنشّقونها كمخدّر) لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، كي يساعده في تصوير فيلم تسجيلي عن ظاهرة أطفال الشوارع في مصر.
من خلال هاتين الشخصيّتين قدّمت رواية «تغريدة البجعة» (2007)، للكاتب المصري مكاوي سعيد، مأساة أطفال الشوارع في مدينة القاهرة. هذه الفئة التي تمثّل شريحة واسعة من المجتمع، تتجلّى في فقدان الإنسانية وسلبها منذ الطفولة. ليصبح الطفل مجرّد رقم هامشي، يهتمون بدراسة أسباب جنوحه، غير مكترثين بإيجاد الحلول لإصلاحه.
«قبض عليه أكثر من مرّة، وأعاده أبوه وإخوته إلى البيت قسرًا وضربًا وكيًا على صدره وظهره بالنار، لكنّ الكلّة جعلت رأسه أصلب من الحديد. نجح كريم بذكائه الفطري في قيادة زملائه الذين منهم من هو أكبر سنًا وأضخم وأشدّ عودًا» (ص. 27)
- مكاوي سعيد، تغريدة البجعة -
رسم منصور الصويم، الكاتب السوداني، في روايته «ذاكرة شريرة» (2011)، عوالم المتشردين بشكل مفصّل، ناقلًا معاناتهم إلى حيّز الأدب، من خلال تناوله لشخصية «آدم كسحي» الذي فقد والدته وهو طفل صغير، ليجد نفسه متنقلًا بين أمّهات متسوّلات علّمنه فنون التسوّل والاستعطاف، للبقاء على قيد الحياة في شوارع مدينة قاسية على الهامشيين والبؤساء أمثاله. فأصبح خبيرًا في هذا الفن، وتجاوزه إلى فن الاحتيال والسرقة، كذلك تعاطى المخدرات الرخيصة إلى أن دخل السجن، فوجد هنالك الوقت والرغبة في تحصيل بعض العلوم، على أيدي معلّمَين وضعهما القدر في طريقه. وبدلًا من أن يرضح إلى واقعه المأساوي، استطاع بفضل ذكائه واندفاعه إلى الحياة، أن يحظى بالاحترام وحياة كريمة.


أوضح صويم في «ذاكرة شريرة» كيف يدخل أطفال الشوارع بسهولة بالغة إلى عالم الجريمة تحت تأثير الكبار الذين يستغلونهم لمصلحتهم الشخصية. وأكّد أن على المجتمع والدولة التعاون لإيجاد مخرج لهؤلاء الأطفال من خلال إيوائهم في دور رعاية تأهيلية، لإعادة دمجهم في مجتمعهم. والتمتّع بحقهم في حياة هادئة.
يُذكر أنّ ظاهرة أطفال الشوارع ليست جديدة على المجتمع، ولا على الأدب، فهي موجودة منذ أوخر القرن التاسع عشر. ومعظم الروايات التي تناوت قضايا اجتماعية، تطرّقت إلى هذه الظاهرة. ولعلّ أوّل وأشهر من طرحها عربيًا بشكل مفصّل، الأديب الراحل نجيب محفوظ في رواية «زقاق المدق» (1947)، والتي حُوّلت إلى فيلم سينمائي عُرض عام 1963.

«هل من الأفضل أن يختار الإنسان طريق الشر، على أن يُفرض عليه طريق الخير؟»
«أليكس» ابن الخامسة عشرة من العمر، شاب جانح إلى حد العنف، لديه خلل في تكوين علاقات اجتماعية، ولكنه في الوقت نفسه ذكي وسريع البديهة ويتذوق الموسيقى الكلاسيكية، وخاصة موسيقى بيتهوفن. هو بطل رواية " clockwork orange" ( للكاتب البريطاني أنتوني برجس التي نُشرت عام 1962، وحُوّلت عام 1971 إلى فيلم يحمل الاسم نفسه).


كان لدى «أليكس» خيال جامح، يتخيّل أنه يمارس فيه أشدّ أنواع التعذيب على الناس. حوّله في ما بعد إلى واقع، حيث قاد عصابة، أخذت تقوم بأفعال جانحة، وتتلذذ في ممارسة العنف الشديد. إلى أن أدين بجريمة قتل امرأة عجوز وحكم عليه بالسجن أربعة عشر عامًا. إثر ذلك تم إخضاعه لعقوبة من نوع مختلف وهو علاج تجريبي اسمه «علاج لودفيكو»، يهدف إلى تعديل سلوكه وتخفيف ما تبقى من عقوبته. وكان هذا النوع من العلاج أحد تقنيات «العلاج بالنفور»، حيث يتم حقنه بمجموعة من العقاقير التي تسبب الغثيان أثناء مشاهدة الأفلام العنيفة، وسماع موسيقى بيتهوفن، مما أدى في النهاية إلى إصابته باضطراب شديد عند محاولته القيام بفعل عنيف.
في المقابل يطرح الكاتب الأميركي جون هوبنر في كتاب "Last chance in texas" (2005)، دور مدرسة غيدينغز "Giddings state" الإصلاحية في تكساس، التي يتم إرسال أسوأ الأحداث المذنبين إليها، ممّن ارتكبوا جرائم شديدة العنف، لإعادة تأهيلهم من خلال تجربة علاجية واجتماعية مكثّفة.
«أخي صار ملاكًا. وأنا؟ سأكون شيطانًا، هذا لاريب فيه. الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين، لقد فاتني أن أكون ملاكًا»


يعرض الكتاب قصص حياة هؤلاء الأطفال والعنف الذي مارسوه على الآخرين، بطريقة تشد المشاعر. من خلال هذا الكتاب، وداخل هذا المركز الاصلاحي، نستطيع أن نفهم الأسباب التي تجعل الأطفال يقدمون على ارتكاب مثل هذه الأفعال العنيفة، وما الذي يجب فعله كخطوة قادمة بعد التأهيل، بدلًا من التخلي عنهم وإرسالهم لقضاء عقوبة السجن مدى الحياة.
كما يسلط الكتاب الضوء على فكرة تغيير نظام العدالة الجنائية إلى مكان لإعادة التأهيل بدلًا من مصنع للعقاب. ويقدّم بالإضافة إلى الحلول، الأمل في التغيير دومًا.

* مقتبس من رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري