ليس معروفاً ان المادة 44 من الدستور (انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه وهيئة مكتب المجلس) من ذوات السوابق. اصحاب السوابق المعروفة المجرّبة وفيرة. منها المادة 33 (العقود الاستثنائية لاجتماع مجلس النواب)، والمادة 49 (انتخاب رئيس الجمهورية)، والمادة 52 (عقد المعاهدات الدولية وابرامها)، والمادة 53 (صلاحيات رئيس الجمهورية)، والمادة 57 (اعادة النظر في القوانين)، والمادة 64 (صلاحيات رئيس مجلس الوزراء)، والمادة 68 (استقالة الحكومة).لايام خلت دخلت المادة 44 في هذا السجل، بعد الجدل الذي رافق جلسة البرلمان الثلثاء الفائت بإزاء احتساب نصاب الفوز المنصوص عليه فيها، لمنصبي رئيس المجلس ونائبه. ليس نصاب حضور النواب - وكان كاملاً - تسبّب في الخلاف. ولا عدد الاصوات التي حازها المرشح. بل احتساب ما لم يسبق ان اثير مرة كمادة جدل دستوري مقدار ما اكتفت بتفسير دلالاتها السياسية والحرتقات التي تنطوي عليها. وهي الاوراق البيض والاوراق الملغاة.
كلٌ منهما مختلفة عن الاخرى. ترمي الاوراق البيض الى تسجيل موقف سلبي اعتراضي، لا هو مع ولا هو ضد. اقرب الى الامتناع عن التصويت. اما الاوراق الملغاة، فتتوخى التسلية والدعابة والزكزكة والتنمر، اذ تتجاوز اسماء المرشحين الجديين الى اخرى غير مرشحة ولا دخل لها في الاقتراع، او تستخدم عبارات تشير الى مضامين ذات بُعد مغاير او شعارات حتى. الاولى هي العرضة للتأويل والخلاف عليها، بينما الثانية فاقدة المعنى والمضمون الدستوريين.
هذه المرة - الاولى - كانت الاوراق البيض والملغاة، ما دامتا سلبيتين، هما المشكلة. ظهر ائتلافهما في الدورة الاولى لانتخاب رئيس المجلس، فاذا عددها 63 ورقة يساوي نصف نواب البرلمان الا واحداً، هو فارق فوز الرئيس نبيه برّي. في الانتخاب التالي لنائب رئيس المجلس للدورة الثانية، تدنى عدد الاوراق البيض والملغاة كي تبلغ ثلاثاً فقط بعدما حل التنافس محلها.
ليست الاوراق البيض والملغاة طارئة في الاقتراع. في الغالب ارقامها متواضعة، قليلة، غير ذات اهمية. تصبح اكثر من معبّرة، بل رسالة مؤذية حتى في استحقاقات دستورية كبيرة. ذلك ما حصل في جلسة انتخاب الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول 2016، بأن أُنزِلت في صندوقة اقتراع الدورة الاولى 42 ورقة بيضاء او لاغية، في مقابل حصوله على 84 صوتاً. في الدورة الرابعة من الاقتراع، بعد الغاء الدورتين الثانية والثالثة، ارتفع عدد الاوراق البيض والملغاة الى 43 ورقة، وتدنى عدد اصوات الفوز الى 83 صوتاً. لم تكن دلالات ما حدث خافية، ولا الفاعلون. ثلث المقترعين في جلسة الانتخاب صوّتوا ضد الرئيس الحالي. الحال نفسها تكررت اخيراً مع برّي. نصف المجلس اختار الورقة البيضاء واللاغية ضده، لتعذر عثور اصحابها على منافس شيعي له، فاذا هي المنافس الوهمي برقم حقيقي.
بعد الاوراق البيض لانتخاب عون، وصلت الرسالة نفسها الى برّي


اما فحوى الجدل الدستوري، والسياسي في الاصل، في جلسة الثلثاء المنصرم، فدار من حول جواز احتساب الاوراق البيض والملغاة في اصوات الاقتراع او استثنائها منها. مجرد السجال حَارَ تفسيره: طُرح عفوياً بفعل هذا الكمّ الكبير من الاصوات البيض والملغاة، أم كان مدروساً سلفاً بغية تبديد الانطباع السلبي المفضي اليه اقتراع غير مسبوق في انتخاب رئيس المجلس اولاً، وبرّي بالذات ثانياً؟
بَانَ طبيعياً ان الرسالة الموجهة الى رئيس الجمهورية قبل اكثر من خمس سنوات، هي نفسها وُجِهت اخيراً، بلاعبين آخرين، الى رئيس البرلمان تعبيراً عن معارضته ومناوأة انتخابه.
كل ذلك انقضى الثلثاء. حُسم الموقف والاقتراع في أوانه، دونما ان تُحلّ المشكلة الناجمة عن الجدل الدستوري الذي افتتحته المادة 44. قدّم برّي تفسيره، فأخذت به الهيئة العمومية بأن احتسبت الاكثرية المطلقة من مجموع النواب المشاركين في الاقتراع، بمَن فيهم المصوِّتون لرئيس المجلس وأصحاب الاوراق البيض والملغاة. دُوِّن ذلك في المحضر الرسمي. بيد ان ما انتهت اليه الجلسة ليس نهاية المطاف. فُتحت ابواب المادة 44 دونما ان توصد، كي تلحق بسجل المواد الاخرى ذوات السوابق.
لكن ثمة جانباً في الحقائق الدستورية لم تُصفَّ ذمتها:
1 - تبعاً للمادة 43 من الدستور، السابقة لآلية انتخاب هيئة مكتب مجلس النواب، فهي تورد الآتي: «لمجلس النواب ان يضع نظامه الداخلي». مؤدى ذلك ان الدستور ناط بالبرلمان صلاحية مطابقة له، هي ان يضع نظامه الداخلي الذي يمتلك قوته ونفاذه مما استمده من الدستور نفسه. يعزز قوة هذا التفويض، تأكيد العالم الدستوري الفرنسي اوجين بيار في مؤلفه “Traité de droit politique électoral et parlementaire”، برقم 445 (الجزء الاول)، ان للنظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية تأثيراً اكبر مما هو للدستور، وان بدا ظاهراً انه قانون داخلي للبرلمان. كتب: “le règlement n’est qu’en apparence la loi interieure des assemblées… en réalité il a souvent plus d’influence que la constitution elle-même sur la marche des affaires publiques”.
2 - في ما نوقش الثلثاء، اشتباك النواب بين قائل بأن الدستور يعلو النظام الدخلي، وآخر يعزو اليه مرجعية التصويت واحتساب الغالبية. على ان ما تضمنته المادة 12 من النظام الداخلي للمجلس، القائلة بعدم احتساب الاوراق البيض والملغاة في حساب الغالبية في اي انتخاب يجريه مجلس النواب، منقولة عن المادة 9 من القانون الفرنسي 29 تموز 1913 التي تعطي الجواب نفسه ببطلان احتساب الاوراق البيض او المعتبرة لاغية: “Le bulletin blanc ou le bulletin déclaré nul comme étant d’une nullité absolue, c’est à dire ne pouvant entrer en compte dans le résultat du dépouillement, ni par conséquent dans le calcul de la majorité absolue”. ذلك ما يؤكده ايضاً اوجين بيار، في مؤلفه نفسه، بعدم الاخذ بالاوراق البيض في حساب فرز الاصوات. بفقرة رقم 224 كتب: “Les bulletins blancs n’entrent pas en compte dans le résultat du dépouillement”.
3 - يتطرق اوجين بيار الى تعريف الاقتراع المعبَّر عنه (vote exprimé) بأنه المعوَّل احتسابه دستورياً كونه يتجاوز بعده كرقم او صوت، الى ربطه بالواجب المفوّض الى النائب ان يقوم به باعتباره منتخباً، ممثلاً لناخبيه، موكلاً اليه واجب المواطنية. تالياً ليس له ان يعزف عن ممارسة دوره، بل ان يضمّن اقتراعه الموقف كي يدخل في حساب الغالبية. من ثم لا يُعد مقترعاً ما دام لم يعبّر عن موقف. برقم 312، كتب كذلك: “En réalité déposer un bulletin qui ne désigne personne, ce n’est pas voter, ce n’est pas accomplir son devoir de citoyen. C’est tâcher de s’épargner à peu de frais l’ennui de passer… pour un abstentionniste, pour un homme sans opinion… si l’on dépose des bulletins blancs, la règle génerale est appliquée. Les bulletins ne servent pas à fixer le chiffre de la majorité absolue”.
ما يعنيه الاخذ بقاعدة عدم احتساب الاوراق البيض والملغاة - وهو ما لم يفعله برّي وذهب في اتجاه معاكس - ان حصيلة الاقتراع تمسي مغايرة تماماً. في جلسة حضرها 128 نائباً، صوَّت 65 نائباً إحتسب اقتراعهم قانونياً عملاً بالمادة 12 من النظام الداخلي للمجلس، فإن رئيسه انتخب باجماع النواب المقترعين الـ65.