بين منتصف 2019 ومنتصف 2022، ثلاث سنوات من ممارسات مصرف لبنان الرامية إلى تعميم الخسائر على المجتمع من خلال ضرب القدرة الشرائية بعدما تراكم تضخّم الأسعار ليبلغ 800%. كان هذا الثمن الذي جرى تدفيعه للمقيمين ليتسنّى لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ممارسة حفلة الإنكار. بهذه الحفلة أنفق أكثر من 20 مليار دولار من سيولته بالدولار، لكنه لم يكتف بل قرّر «رش» الدولارات في الهواء الطلق عبر التعميم 161 الذي يتيح تحصيل فوائد يومية على رأس المال بمعدل 10%، أي بمعدل 100% شهرياً. هذا هو عمق الأزمة الحالية، لكن الناس مستقطبون حول مجموعة عناوين مسلوخة عن سياقها، مثل الصندوق السيادي، الكابيتال كونترول، الودائع مقدّسة، التدقيق الجنائي... عملياً، قلّة فقط لديها رؤية واضحة لهذا السياق وتعمل من أجله. أما الباقون فهم «زقّيفة» يعملون غبّ الطلب
ما الذي حصل فعلاً خلال هذه السنوات الثلاث؟ لم يكن القدر مسؤولاً عما حصل، بل كان أمراً ممنهجاً ومخططاً له عن عمد وبخبث. فقد تطبّعت هذه الفترة بعملية تحوّل جذري في خطاب السياسات النقدية من «طالما أنا في حاكمية مصرف لبنان فإن الليرة بخير» الذي أطلقه سلامة قبل الأزمة، إلى بيان أصدره يوم الجمعة الماضي موجّهاً لـ«جميع حاملي الليرة من مواطنين ومؤسسات يريدون تحويلها إلى الدولار... هذا العرض مفتوح ومتاح يومياً».

(هيثم الموسوي)

بين الخطابين، يتكرّس مصرف لبنان بأنه كازينو من الطراز الرفيع. فهو كان يربط وجوده على رأس الحاكمية بالسعر المدعوم لليرة بقيمة 1507.5 ليرات وسطياً لكل دولار، ثم أصبح يوجّه عروضاً مغرية لتحقيق الأرباح السهلة والسريعة. سياسة نقدية لم يتبدّل فيها شيء على مدى نحو 27 سنة. ففي السابق كان الربح عبر استقرار سعر الصرف، مهما تبدّلت الأوضاع والظروف خلافاً للطبيعة وللحقائق الاقتصادية. أما اليوم، فـ«المركزي» سيمنح كل من يحمل الليرة «هدية» معدلها يصل إلى 13% يومياً من رأس المال وتُدفع بالدولار الأميركي النقدي. وهذه الحصيلة ليست سوى الوجه المُعلن للكازينو، أي الساعي إلى استقطاب السيولة من خلال إعادة تدوير سيولته في السوق. بمعنى أوضح، إذا لم يزداد سعر الدولار مقابل الليرة في السوق، لن يتم إغراء حاملي الدولارات على إخراجها من مخازنهم لصرفها وإيداعها لدى المصارف - مصرف لبنان، طمعاً بأرباح سهلة يمكن تحقيقها من التعميم 161. هكذا يتم التلاعب يومياً بسعر الصرف، فضلاً عن استعماله كأداة لتسديد ثمن الحماية السياسية عبر صرافين موالين لهذا الزعيم أو ذاك.

بالأرقام

21 مليار دولار
هي قيمة الأموال التي أنفقها مصرف لبنان منذ مطلع 2019 حين كانت 31.9 مليار دولار لغاية نهاية نيسان لتصبح 10.98 مليار دولار
100%
هي نسبة الفوائد الشهرية الدنيا التي يمكن تحقيقها من التعميم 161 وهي أعلى بأضعاف من معدلات الفائدة قبل الأزمة


هذه القصّة يمكن روايتها في العديد من المحطّات، إنما أبرزها في 2016 وما تلاها. فما سُمّي يومها «هندسات مالية» لم يكن في الحقيقة سوى إحدى الآليات والديناميكيات التي يستعملها الكازينو من أجل الاستمرار. يُنقل عن زوار سلامة في بداية الأزمة، أنهم سألوه عن أسباب موافقة المصارف على توظيف الأموال التي جمعوها من الزبائن، لدى المصرف المركزي على فترات متوسطة وطويلة، مع أنهم كانوا يعلمون أن طبيعة عمل النظام المصرفي تبدّد الدولارات (التبديد يعني تحويلها إلى أصول محلية، ومن هذا التعريف يمكن فهم بروز اسم الدولار المحلي المعروف بـ«اللولار»). أجاب سلامة بكلمة واحدة: «الطمع». هذا هو المحفّز الذي استعمله سلامة مع المصارف لاستقطاب أكثر من 15 مليار دولار من المصارف، وهو المحفّز نفسه الذي يستعمله اليوم مع عموم الناس الذين تحوّلوا في غفلة إلى مضاربين على العملة. غالبيتهم على اعتقاد بأن اللعب في هذا الكازينو «ربّيح» دائماً. فها هو يغدق بالدولارات عبر التعميم 161، كما أغدقها سابقاً على المصارف إفرادياً وجماعياً.
عملياً، هكذا يتم تخدير عموم الناس حتى لا يشعرون بآلام التضخّم. في السنوات الثلاث الأولى من عمر الأزمة تراكم التضخّم بنسبة تفوق 850%. ويتزامن هذا الوضع مع استمرار لعبة القوى الحاكمة بنطاقها الأوسع، وإجماعها على تبديد ما تبقى من دولارات المجتمع التي ائتُمن عليها لدى مصرف لبنان. اتفقت القوى الحاكمة على لعبة الإنكار لأنها عاجزة عن تجاوزها ما دفع مصرف لبنان إلى إنفاق أكثر من 21 مليار دولار خلال هذه الفترة بغطاء سياسي ممانع لاستثمار أي قرش للخروج من الأزمة. أما الطبقة التي كانت تدّعي قدرتها على قيادة ثورة ضدّ هذا النظام فقد أصبحت، فجأة، غافلة عن ارتفاع أكلاف النقل والمواد الغذائية الأساسية، والملابس، والتعليم، والاتصالات، والكهرباء... لأن الكازينو يمنحهم أموالاً مجانية. لا يهتمون أن هذه الأموال هي الذخيرة الأخيرة التي يملكها هذا النظام والتي كان يفترض استخدامها في مجال النهوض. وهنا ليس المقصود النهوض بالقطاع المالي وحده، كما أشارت خطّة نائب رئيس الحكومة المنتهية ولايته سعادة الشامي، بل النهوض بكل المجتمع. للمفارقة، إن الطبقات المسحوقة أصبحت مسحوقة أكثر، وهو ما يفسّر سكوتها.

تراكم الخسائر وإخفاؤها
هل هذا ما حصل في حقبة النصف الثاني من الثمانينيات، أي في الفترة التي شهدت أزمة نقدية حادّة وسط الحرب الأهلية؟ بين عام 1984 و1989، ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة 87 ضعفاً من 5.9 ليرات إلى 505 ليرات للدولار الواحد. في هذه الفترة كان القصف شغّالاً على العديد من المحاور مثله مثل التفجيرات المتنقلة. ولم يكن لدى الدولة سيطرة على المرافق الحكومية التي كان يفترض أن تدرّ عليها إيرادات لأنها كانت تحت سيطرة الميليشيات. ولم يكن سهلاً جباية الضرائب بعدما حلّت الميليشيات بديلاً من الدولة. في تلك الفترة أصيب لبنان بحالة «تضخّم قصوى» بسبب انهيار القدرات الشرائية الناتج من انخفاض قيمة العملة. إنما أتت هذه الحالة من دون ضغوط الدين العام بالعملة الأجنبية، إذ كانت الديون بالدولار على لبنان لا تذكر. لذا، أدّى الانهيار إلى عملية انتقال للثروة حصراً بالليرة اللبنانية من دون تسجيل خسائر بالدولار. وأصيب حاملو الليرة، سواء بمدخراتهم أو بودائعهم بخسائر كبيرة، لكن ثمة مفاجأة في فترة الحرب تلك؛ ففي ذلك الوقت جرى تصحيح الأجور 8 مرات من حدّ أدنى بقيمة 1250 ليرة شهرياً إلى 25 ألف ليرة، أي بمعدل 1.6 مرة في السنة، وبتطوّر تبلغ نسبته المطلقة 1900%. أما اليوم، فلم يشهد القطاع الخاص سوى تصحيح للأجور لمرّة واحدة بعد ثلاثة سنوات من الأزمة وبنسبة مطلقة تبلغ 492% فقط، مقابل مساعدة اجتماعية للقطاع العام لبضعة أشهر بالكاد تغطي كلفة مولّد الكهرباء في الحيّ.
عموماً، في الثمانينيات كان يتم امتصاص الخسائر الفورية التي تظهر بنتيجة مفاعيل الأزمة بسرعة نسبية. وانتقال الثروة بفعل الأزمة، كان ظاهرة مواكبة لتوزيع الخسائر. إنما اليوم، فإن الظاهرة الأساسية مختلفة جداً: كانت الخسائر تتراكم لمدّة 25 سنة بالدولار ثم انكشفت فجأة. في هذه الفترة كان الناس يتنعّمون بالسعر الثابت لليرة مقابل الدولار مقابل تراكم وإخفاء الخسائر والمستفيدين منها. فقنوات التوزيع السياسي كانت تعمل بطاقتها القصوى لامتصاص كل التدفقات الآتية بالعملة الصعبة. المصارف كانت القناة الأساسية، ومصرف لبنان كان المنظّم الأساسي، وسائر المؤسسات السياسية وقوادها كانوا مجرّد غطاء. هكذا اختلطت في كازينو مصرف لبنان أموال المغتربين الغارقين بعرقهم في دول أفريقيا والخليج وأوروبا وأميركا، مع الرساميل المتوحّشة في الداخل والخارج، ومع المدخرات المحلية... أما الدين بالدولار، فكانت فوائده تُدفع بلا توقف منذ 1997 لغاية مطلع 2020. نحو 23 سنة من التسديد بلا انقطاع، وفيها استهلكنا أكثر من 160 مليار دولار صبّت بمعظمها في جيوب الدائنين وكبار المستهلكين. أي أن الظاهرة الأساسية تكمن في من استفاد قبل انكشاف الخسائر الذي وضع الجميع أمام مأزق توزيعها... ثمة فرق كبير بين تلك المرحلة والآن. ففي تلك المرحلة لم يكن هناك كازينو كالذي لدينا الآن لكن امتصاص التداعيات كان أسرع بكثير من الحلقة التي ما زلنا عالقين فيها منذ ثلاث سنوات.

نموذج يكرّس العجز
كان يمكن أن نقارن فترة النصف الثاني من الثمانينيات مع عام 1997. في هذه السنة تحديداً كانت المقارنة أصحّ لأن الخسائر ستصبح فورية وليست متراكمة ومخفية. أصلاً في تلك السنة انطلقت عملية الإخفاء. كان توزيعها سيكون أسهل بكثير مع أوجاع معقولة. إنما اليوم، فالتخدير هو الأداة الوحيدة المستعملة. وبواسطة ما تبقى من احتياطات أو «سيولة بالدولار» لدى مصرف لبنان، يتم تخدير اللبنانيين لإخفاء المسؤولية عن الخسائر، ولإخفاء العجز عن معالجتها بغير التضخّم. وقد نجحت قوى الحكم في زرع جدول أعمال يقوم على انقسام حول عناوين مسلوخة من أي سياق واقعي. فالكلّ يناقش بشأن الصندوق السيادي، والكابيتال كونترول، والتدقيق الجنائي، وقدسية الودائع وصولاً إلى إعادة تكوينها، ومع صندوق النقد الدولي أو ضدّه... كل هذا النقاش يأتي في سياق تقديم الوصفات المحدودة بواقع سياسي هشّ. فهل علّة لبنان أن هناك فساداً وسرقات ولصوصاً من القطاعين العام والخاص، رغم أن كل الدول فيها فساد ولصوص؟ هل المشكلة في أن نحافظ على المصارف أم نشطبها أي أن ننتقم منها أو نعظّمها كحاجة اقتصادية؟ هل المشكلة في أن يكون هناك قضاء فاعل ولو نسبياً؟

مصرف لبنان «يرش» الدولارات في الهواء الطلق عبر التعميم 161


ثمة الكثير من الأسئلة المطروحة التي تمنح الوصفة أولوية على توصيف العلّة. لذا، ليس هناك اهتمام بأن نموذج الاقتصاد السياسي للبنان أرسى مجتمعاً يكاد لا ينتج شيئاً، بل يعتمد في مداخيله على المغتربين لتعزيز مداخيل المقيمين أو لتمويل المدخرات التي لا يتم توجيهها نحو الاستثمار. وهو نموذج لا مشكلة لديه في الاقتراض بالدولار رغم عدم توافر موارد بهذه العملة، ولا مشكلة لديه في استعمال الدولار في السوق المحلية بدلاً من الليرة... أصلاً لبنان لا يعرف ماذا سينتج حتى لو نجحت «خطّة النهوض» التي أعدّها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بناء على أفكار وتوصيات صندوق النقد الدولي. كل ما تقوله هذه الخطّة، أنه يمكن إصلاح النموذج السابق مع بعض الضوابط بعد شطب 70 مليار دولار من الأموال التي تدفقت نحو لبنان في الـ25 سنة الماضية. يقولون أن نموذج الـ«بونزي» أو المخطط الاحتيالي، يمكن ترميمه والتخفيف من النزف فيه من دون وعود بأنه صالح للنمو والتنمية. المشكلة أن قوى الحكم عاجزة عن تسويق بنود خطّتها، وهي أيضاً عاجزة عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي.



من يغطّي خسائر المجتمع؟
حتى الآن كل النقاش المتعلق بتوزيع الخسائر محصور برساميل المصارف والمودعين. من خسر أكثر ومن خسر أقلّ. لكن مسألة توزيع الخسائر يجب أن تأخذ في الاعتبار أن عملية تعميم الخسائر التي مارسها مصرف لبنان بغطاء من قوى السلطة، أو بالأحرى عملية التوزيع المستترة للخسائر، تحمّل المجتمع خسائر لا يمكن حسبانها. الحسابات البسيطة تكمن في الخسارة اللاحقة بالناتج المحلي الإجمالي من 55 مليار دولار قبل الأزمة إلى 22 مليار دولار (وفق البنك الدولي) في 2021، أي خسارة بقيمة 33 مليار دولار. لكن هذه الطريقة فيها الكثير من التسطيح لمسائل أكثر عمقاً وتعقيداً في بنية المجتمع لأنها لا تأخذ في الاعتبار التداعيات الطويلة المدى للفقر على المجتمع وعلى نوعية التعليم والرعاية الصحية مثلاً. ولا تأخذ في الاعتبار أيضاً أن الهجرة ستكون لها مفاعيل سلبية على الاقتصاد. فالهجرة تعني خسارة هائلة في الاستثمارات التي وضعتها الأسر في أبنائها لتعليمهم وإكسابهم المهارات والخبرات المهنية، ولا تشمل كلفة إعادة تشغيل المؤسسات التي أغلقت جزئياً أو كلياً، ولا تشمل كلفة استبدال الخبرات التي هاجرت والتداعيات الملازمة لذلك، ولا تشمل كلفة إعادة تكوين الاحتياطات بالعملة الأجنبية... ثمة الكثير من العوامل التي تقول إن الخسائر التي حفّزها حاكم مصرف لبنان بغطاء القوى الحاكمة هي أكبر بكثير.