أعلنت إسرائيل، أمس، انتهاء فعاليات مناورة «مركبات النار»، إحدى أكبر مناوراتها العسكرية في العقود الأخيرة. بعد شهر كامل من التدرب على مواجهات عسكرية في أكثر من جبهة، خصوصاً الجبهة الشمالية في سوريا ولبنان وصولاً إلى الشرق البعيد مع إيران، يفترض أن يكون الجيش الإسرائيلي أكثر استعداداً لمواجهة فرضيات متطرفة قد يندفع إليها جيش العدو، تدحرجاً أو بمبادرة منه، على واحدة من الجبهات القريبة أو البعيدة، أو كلها معاً.وشاركت في المناورات كل أذرع الجيش الإسرائيلي على اختلافها، براً وبحراً وجواً، من دون استدعاء افتراضي أو حقيقي للاحتياط. وتضمنت فرضيات حول خسائر غير مسبوقة في الجبهة الداخلية جراء تعرض الكيان لوابل غير مسبوق أيضاً من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة. كما شملت مواجهات صدّ وعمليات دفاع ضد غزو للمواقع العسكرية والثكنات على طول الجبهة اللبنانية، مع سيطرة على عدد من المستوطنات، وسيناريوهات هجومية من بينها دخول بري إلى لبنان مع عمليات إنزال في العمق اللبناني لوحدات النخبة.
مهما قيل إسرائيلياً عن المناورة وعن الجهوزية العسكرية التي ستنقل الجيش الإسرائيلي إلى «قدرات غير مسبوقة» في مواجهة فرضيات الحرب على أكثر من جبهة (تماماً كما هي نتيجة كل المناورات السابقة)، إلا أنها ليست خارج السياق ولا تشير بالضرورة إلى توثب لأعمال عدائية وشيكة، بل هي جزء لا يتجزأ من عمل أي جيش مهني بأن يكون في واحدة من حالتين: إما أن يحارب، أو يستعد للحرب.
في العادة توضع فرضيات المناورات ربطاً بالتهديدات التي تشخّصها الجيوش، وبتقدير نوايا الطرف الآخر وقدراته وخططه وإرادته لتفعيل الوسائل القتالية التي يمتلكها ومناوراته المعلنة وغير المعلنة. كما أن أحد أهداف الإعلان عن المناورات (وهي في حالة إسرائيل تكون دائماً «غير مسبوقة») هو استغلال الفعل الاعتيادي الطبيعي لتحقيق أهداف وإرسال رسائل في سياق المواجهة مع الجبهات المختلفة. والحديث عن المناورة وفعالياتها والجهوزية التي تحققها، والتركيز الإعلامي على واحدة من فرضياتها، يهدف إلى تحقيق نتائج في مرحلة ما قبل الحرب، بمحاولة ردع الطرف الآخر عن المبادرة إلى الإضرار العسكري بإسرائيل، وفي الحالة الحاضرة ردعه عن الرد على اعتداءاتها. كما يهدف إلى طمأنة الجمهور الإسرائيلي بأن جيشه مستعد للتعامل مع الفرضيات مهما كانت متطرفة. وهذا واحد من أهداف الإعلان الإسرائيلي عن المناورات في مرحلة ما قبل الحروب، خاصة ما يتعلق بالتدخل البري أو الإنزالات في العمق وغيرها من السيناريوهات التي ثبت أن العدو يبتعد عنها، خصوصاً أنها موجودة لدى أعدائه في لبنان وغزة، وتعطي نتائج سلبية على أمنه في أكثر من مستوى.
أهم ما يمكن استنتاجه من مناورة «مركبات النار» هو أن «غير المسبوق» في حجم المناورة وامتدادها وسيناريوهاتها، يساوي بالضرورة حجم التحدي والتهديد والقدرات لدى الطرف الآخر. وهنا، تحديداً، تبرز الساحة اللبنانية المشبعة بالقدرات العسكرية. وكلما زادت مستويات مناورات العدو وحجمها وامتدادها وفرضياتها والإمكانات المرصودة لها عسكرياً ومادياً، فهذا يعني أن قدرة الطرف الآخر باتت أيضاً غير مسبوقة. في هذه الحال، قد تعني المناورة رفع الجهوزية لمواكبة التحدي، تماماً كما تعني الجهوزية لمباشرة الحرب.
كل ما ذُكر، وما لم يُذكر، عن المناورة الإسرائيلية الكبرى، هو في سياقاته الاعتيادية. تماماً كما هي المناورات في الطرف الآخر. لكنّ ما هو غير الاعتيادي هو مشاركة قبرص، الدولة «الصديقة» للبنان، جهوزية الجيش الإسرائيلي واستعداده العسكري للغزو البري في الساحة اللبنانية. وكما هو معلن في تل أبيب، يهدف التدرب في قبرص، إلى تأمين جهوزية الوحدات المقاتلة على القتال والمواجهات في تضاريس مشابهة للتضاريس اللبنانية.
«مركبات النار» في قبرص: «الجارة» تشارك في «الهجوم» على لبنان!


في عام 2017، خاض الجيش الإسرائيلي مناورات «غير مسبوقة» أيضاً، تخللتها تدريبات في الأراضي القبرصية استعداداً لعدوان مستقبلي على لبنان، وشاركت فيها وحدات من الجيش القبرصي لعبت دور مقاتلي حزب الله. وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن المناورات في التضاريس القبرصية تجري منذ سنوات لمحاكاة مواجهات تبادر إليها إسرائيل عبر تنفيذ هجمات برية وفق مخطط مسبق لغزو لبنان، بمعنى أنها لا تدخل في المنحى الدفاعي، بل الهجومي الصرف. لذلك، يثير الموقف القبرصي أسئلة عديدة، ربما أهمها السؤال عن تموضعها الذي لا يمكن تفسيره إلا ضمن التوجه العدائي الإسرائيلي ضد لبنان. وإلا ما معنى أن تضع قبرص أجواءها وأراضيها وتضاريسها ومدنها ووحدات من جيشها، وموانئها الجوية والبحرية، في خدمة تدريبات للجيش الإسرائيلي في سياق هجومي، لا دفاعي، ضد لبنان؟