كانت بلدتا القنطرة ودير سريان قد تحرّرتا، ودخل الأهالي إليهما بمواكبة من شباب المقاومة الإسلامية، عندما اتصل أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله بالمعاون الجهادي الشهيد القائد عماد مغنية، وطلب منه التوجّه إلى الجنوب لمتابعة خطة الدخول إلى المناطق المحتلة. الانهيار السريع لعملاء الاحتلال اقتضى الاستنفار ومواكبة التطورات لحظة بلحظة منعاً لحصول أي مفاجآت غير محسوبة.
حضر شخصياً في «عين إبل» ليطمئن الناس

عرمتى والبياضة
انهيار العملاء كان حصيلة عمليات مكثّفة للمقاومة سبقت التحرير، أشهرها عمليّتا عرمتى والبياضة. في الأولى، جلس عماد مغنية في منطقة حرجية في كفرحونة، تطلّ على الطريق والموقع، يراقب من هناك ما صنعت يداه، بعدما تمّ تضليل العدو ليظنّ أنّ الموقع المستهدف هو موقع بئر كلّاب، إذ اعتمدت المقاومة على ضرب حوالى 16 موقعاً بنفس الوقت. بدأ المقاومون اقتحام الموقع وخلال 4 دقائق، تمّ إحكام السيطرة على الساتر الأول. دخل المقاومون إلى الموقع والممرّات وفخّخوها، ثم بدأ الانسحاب سريعاً. المفاجأة أنه تم استخدام سيارة «بيك أب» مصفّحة تعمل على الـ «ريموت كونترول» محملةً بثلاثة أطنان من المتفجرات. استخدمت هذه التقنية للمرة الأولى في عمليات المقاومة وكانت تضمن تدمير كل التحصينات وقتل من فيها. بعد تدمير الدشم والانسحاب الكامل للمقاومين، تمّ إعطاء الأمر لتفجير الموقع بالشاحنة المفخخة لكن التفجير تأخر نحو عشر دقائق وبينما كان أحد المقاومين يهم بالاقتراب منها لمعرفة سبب التأخير انفجرت ودمرت الموقع بالكامل. عندها هتف مغنية بالتهليل والتكبير، ليكون الموقع الأول الذي يتمّ تدميره بالكامل بعد الهجوم عليه.
أما موقع البياضة، فقد استُهدف بقذائف من دبابات، لتكون المرة الأولى أيضاً التي تستخدم فيها المقاومة هذا السلاح. وكان القصد قبل تحريره، هو إبلاغ الإسرائيلي أنّ الأسلحة الجديدة المقبلة ستكون أثقل نوعاً، وأكثر فعالية.

سيراً على الأقدام
أسهمت هاتان العمليّتان، إلى الحرب النفسية التي شنّها السيّد حسن نصر الله، في إخافة العملاء وإخلائهم لمواقعهم بسرعة مع بدء انتشار الأخبار عن دخول الأهالي إلى قراهم. وليل الأحد 21 أيار، عقدت قيادة المقاومة، في حضور مغنية، جلسة طارئة في أحد منازل قرية بير السلاسل وتمّ الاتفاق على ثلاث نقاط: ضرورة أن يتمّ الانسحاب الإسرائيلي تحت النار، وفي الوقت نفسه ضمان حماية الأهالي، والحرص على عدم حصول أي إشكال قد يتخذّ طابعاً مذهبياً أو طائفياً.
فجر 22 أيار، دخل المقاومون ليؤمّنوا طريق الأهالي الذين تواصلت معهم المقاومة لكي ينتظموا في مواكب العودة. ومع ساعات الصباح الأولى، بدأ الأهالي المسير إلى وادي السلوقي (وادي الشهداء) من جهة شقرا باتجاه حولا ومركبا ورب ثلاثين وطلّوسة وغيرها، على وقع انهيار الميليشيات اللّحدية وتسليم عناصرها أنفسهم للمقاومة وللجيش اللبناني.
دخل الحاج عماد إلى القرى مدنياً وعبر من وادي السّلوقي إلى طلّوسة


مع مواكبته مسيرة المواطنين في وادي السلوقي، قال الحاج عماد مغنية للشيخ نبيل قاووق، الذي كان يدير غرفة العمليات: «أنا بطّلت قائد عسكري، أنا مواطن، سأسير معهم»، وبالفعل دخل الحاج عماد إلى القرى، مدنياً، وعبر من وادي السلوقي إلى طلّوسة، ليلتقي به أحد المسؤولين الميدانيّين في السيارة، ويتوجّه معه من هناك إلى مركبا.
على الطريق، التفت «الحاج رضوان» إلى أنّ شباب المقاومة أنشأوا حاجزاً، فنزل من السيارة وطلب رفع الحاجز: «خلّي العالم تروح وتجي مرتاحة»، معقباً: «لا نريد أن يخاف الناس».

حماية المسيحيّين
كذلك الأمر في القرى المسيحية، لم يرغب في أن يخاف أحد. فنفّذ خطة أمنية تضمن حمايتهم وأملاكهم، وأعلن عن قرار يقضي بمنع أي ظهور مسلّح للمقاومين. ثم حضر شخصياً في قرية «عين إبل»، وعرّف عن نفسه بأنه من المقاومة وأنه قادم ليطمئن الناس أنّ لا داعيَ للخوف من المقاومة ومجاهديها. جاء هذا الفعل بعد حملة نفسية شنّها العدو قبيل انسحابه، طالباً من أهالي المنطقة هناك أن يتسلّحوا لحماية أنفسهم من المقاومة التي ستقتلهم. فشل مسعاهم، بعدما سبقت قيادة المقاومة بوفودها المعلنة وغير المعلنة السعي لدقّ الإسفين بينهم وبينها. وفي إبل السقي، رفض مغنية إعطاء الأمر للمقاومين بأن يقصفوا تجمّعاً لآليات وجنود إسرائيليين بسبب وجود مواطنين من البلدة في مكان قريب منهم.

أجمل ساعة في حياتي
وعلى مدى أيام التحرير الأربعة، حرص مغنية على أن يزور السياج الحدودي كاملاً، من الناقورة إلى شبعا. استطلع الميدان ومسحه أمنياً، معدّاً دراسة أولية عن المرحلة القادمة، وعن الحدود الجديدة التي ستكون مسرح العمليات المقبلة. وعندما اجتمع مع الشيخ نبيل قاووق، مسؤول منطقة الجنوب آنذاك، أسرَّ له أنه وقف طويلاً عند سياج حولا. وقف ساعةً كاملة متأملاً المشهد «وكانت أجمل ساعة في حياتي. رأيت فلسطين وشممت هواء فلسطين». عاتبه الشيخ لأنه أطال الوقوف أمام الإسرائيلي، لكن الحاج كان مرتاحاً على هذا الصعيد، مطمئناً أنهم لا يعرفونه. وبرفقة الشيخ قاووق، زار مواقع العمليات الاستشهادية، موقعاً موقعاً.

ما بعد 25 أيار
الانسحاب الإسرائيلي لا يعني الاستراحة، بل الاستعداد لمواجهة مقبلة، إذ كان الحاج عماد يتوقّع أن لا تتحمّل تل أبيب الهزيمة، وبأن الإسرائيليين سيبدؤون بالعمل للثأر.
وكما أنه كان قد لحظ في بدايات عام 2000 قصف المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا لتأكيد حق لبنان فيها، أعطى الأوامر بتدمير كلّ المواقع المحرّرة كي لا يتمركز بها الإسرائيليون مجدّداً في حال عاودوا الدخول، أو نفذوا هبوطاً مظلياً فيها. دُمّرت المواقع، لكن ليس قبل أن يمسحها المقاومون ويأخذوا منها الكثير من العتاد والأسلحة الإسرائيلية والوثائق.
في 24 أيار، وبعد التجهيز لاحتفال النصر، خلد الجميع إلى النوم، لكنّ الحاج عماد بدأ بتشكيل لجنة وأعدّ ورشة عمل جديدة ليستغلّ حالة الاستنفار على الحدود، والقيام بعملية أسر جنود إسرائيليّين.