«أنتم تنامون، أما أنا فأقضي الليل أفكّر في مستقبلكم!» هكذا اختصر محمد معاناته لأولاده، أثناء حواره معهم عن احتياجاتهم ومصروفهم الماليّ. وحال محمد هو حال معظم الآباء في لبنان، الذين تنهش رؤوسهم المخاوف بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي حالت دون إتمامهم لواجباتهم تجاه أولادهم. وحال محمد كحال آباء كثيرين، لا ينامون، ويشعرون بالقهر نتيجة تقصيرهم، عنوَةً، عن أداء واجباتهم وتأمين متطلّبات أطفالهم من غذاءٍ وتعليمٍ وطبابةٍ وغيرها.
جميعنا في خطر
في سهرةٍ عائليّةٍ، يقول علي، عاملٌ حرّ وربّ أسرة: «لا نعرف نهاية ما بدأوه، فكلّنا سنصبح فقراء بعد سنةٍ إذا استمرّ الوضع على هذا المنوال، لأنّ من كان لديه ذهبٌ أو فضة باعهما ليأكل أو يعلّم أولاده. ومن كان لديه أموالٌ في المصرف، العوض بسلامتك. ومن خبّأ أمواله في المنزل دون تحويلها إلى دولار، فقدت قيمتها، وللأسف هذا ما فعلته أنا بسبب ثقتي بالليرة اللبنانية. جميعنا في خطر!». يستطرد: «حتى الذين يتقاضون أجورهم بالدولار، لا أعتقد أنها تكفيهم لعيش حياةٍ مستقرّة وتأمين كامل مستلزمات أطفالهم، لأنّ الأسعار في ارتفاعٍ بالدولار أيضاً، وليس فقط بالليرة اللبنانيّة».
جاد، وهو أبٌ لخمسة أولاد، تشغله صحة أولاده: «أفكّر إذا أصاب أحدَهم مكروهٌ ما، كيف سأتمكّن من تأمين تكاليف المستشفى؟ الضمان الصحيّ في كارثة، ولا يزال فرق التكاليف يُدفع حسب الليرة اللبنانية. من أين آتي بالمال لتغطية تكاليف استشفاء أحد أطفالي إذا مرض؟». يذكّر بالخبر الذي انتشر عن التأخر في استقبال الرئيس سليم الحص في المستشفى ويُضيف بغصّة: «يعني اللي بيمرض بهالبلد، زعيم أو مش زعيم، بيموت على باب المستشفى. ما في خيار تاني».
ويؤكد حسين، أبٌ لطفلٍ واحدٍ، هذا الواقع الذي يلمسه من خلال عمله في توزيع الأدوية: «في الحالات الطارئة، عندما أتمكّن من تأمين دواءٍ منقطع لأحد الأطفال، أرى كيف يتحوّل الحزن في عيون والديه إلى لهفة. أخاف على ولدي أن يمرض، لا قدّر الله، وأن أبحث له عن دواءٍ ولا أجده».
أما أحمد، الذي عانى ليستطيع تأمين الدفء لعائلته هذا الشتاء: «وصرفت أكثر من نصف أموالي لكي أشتري المازوت»، يفكر منذ اليوم في الشتاء المقبل: «لا يمكنني تصوّر فكرة أن يمضي أولادي شتاء بارداً، لقد رأيت مشاهد التدفئة تحت البطّانيّات في عدة منازل دخلتها لتقديم المساعدات إلى سكانها، وبعضهم كانت منازلهم خالية إلّا من بعض الأفرشة والأغطية لاحتواء الأطفال من البرد القارس. أخاف أن ينتقل هذا المشهد إلى منزلي أيضاً».

بين الأولويّة والكماليّات
والآباء في لبنان ليسوا وحدهم في معركة الرّغيف والدواء والمأوى. بل تشاركهنّ الأمّهات المربّيات والعاملات، نضالهم. فالعاملات منهنّ يتشاركن مع أزواجهنّ عبء المصاريف، والمربّيات يلتزمن بنظامٍ منزليٍّ قاسٍ مع الأولاد، تطول فيه لائحة الممنوعات، ويقتصر المباح فيه على أمورٍ بسيطة مثل شراء الخبز والأساسيات فقط. أمّا الشوكولا وأخواتها، فمسموحٌ بها فقط في المناسبات. كما لا تغيب الأمهات الأرامل عن هذا المشهد القاسي أيضاً، فصبرهنّ كصبر أيّوب، دَؤوبات يَسعَيْنَ سعياً مضاعفاً. فَهُنّ يمارسن دور الأب والأمّ في آنٍ واحدٍ، وكالجميع، عملهنّ برغم كثافته «لا يُتيح إمكانية تأمين جميع احتياجات الأطفال. لكنّ بركة الله ولطفه ورحمته، هي المحفّزات للاستمرار في السعي»، حسب قول إنعام، أمّ لثلاثة أولاد، فقدوا والدهم منذ سنة، بعد معاناته مع السرطان.
خلال صبحيّةٍ للجارات، تقول نور وهي أمٌّ لخمسة أولاد، كانت قبل الأزمة حريصة على أن تؤمّن لهم كلّ احتياجاتهم دون تقصير: «أنزعج عندما أفكّر في أنّني لم أعد قادرة على شراء ثيابٍ جديدة لكلّ أطفالي في العيد. لم أكن أقصّر في حقهم سابقاً، أما اليوم فأوفّر مال الثياب لكي أؤمّن لهم الاحتياجات الأوّليّة كالتعليم. لأنّ الثياب أصبحت من الكماليّات». وهناك بعض الأهالي الذين يفكّرون أيضاً في كيفيّة تسديد الأقساط المدرسية المتصاعدة، لأنّ «أجر العمل لا يكفي لتسديد قسط تعليم طفلٍ واحدٍ في مدرسةٍ خاصة» حسب تعبير أحد الآباء العاملين في سوبرماركت.
وفي الدّكان، تستغلّ ريم نقاشاً بين زوجين على جودة منتجٍ، لتقول لهما: «لم أعد أطعم أولادي المنتجات التي اعتادوا عليها. صرت أبحث عن الأرخص ولو كان أقلّ جودةً، لأنه إذا استمر الوضع هكذا، أخاف أن أفقد القدرة على إطعامهم». تُضيف متنهّدةً: «أحمد الله أنّني لا أزال قادرةً على شراء اللحمة من فترة لأخرى ولو بكمياتٍ قليلة، في حين أنّ بعض العائلات لم تعد قادرة على شراء مكعّب ماجي».
تأكل الأفكار السوداء رؤوس الأهالي وتُذيب قلوبهم، لأنّهم يحملون مسؤوليةً تُرهق العقل وتجرح عاطفة الأبوّة أو الأمومة في داخلهم، أمام عجزهم عن تأمين مستقبلٍ آمنٍ لفلذات أكبادهم. وهم إذا ظهر أمامهم مصباح علاء الدين السحريّ، سيطلبون من المارد ثلاث أمنياتٍ هي: استعادة أموالهم المنهوبة، دوام نعمة الصحة والفرح على أطفالهم وراحة البال. وتحقيق هذه الأمنيات، مثل علاء الدين ومصباحه والمارد، مُستحيلٌ اليومَ في لبنان!