سيبقى الاقتراع المسيحي في انتخابات عام 2022 لبعض الوقت تحت المجهر، بعيداً عن مهرجانات النصر والاحتفالات بعدد المقاعد التي فاز بها كل فريق. ثمّة خلاصات، سياسية واجتماعية وطائفية، أثبتتها الأرقام النهائية التي نتجت من هذه الدورة، تحتاج إلى مزيد من التبصّر حول أسبابها وخلفياتها وما تتركه من تداعيات.صوّت المسيحيون هذه المرة تصويتاً يتراوح بين التصويت المفيد والعقابي.
فقد عبّر المسيحيون عن «غضبهم» من التيار الوطني الحر الذي يمكنه إعطاء تفسيرات جمّة لنتائجه من أجل إقناع جمهوره. لكنه يعرف تماماً، كما يعرف حلفاؤه الأقربون، أن ثمة متغيرات واقعية جرى التعبير عنها في صندوق الاقتراع بحسب عدد الأصوات، وليس فقط وفق النتائج التي انتهت بحسب القانون وعملياته الحسابية. لا يعني ذلك أن التيار فقد شرعيته لدى مؤيديه من المسيحيين ممن لا يزالون يدينون له بالولاء. لكن حقيقة التصويت في مكان آخر، ولا تتعلق بحجم الكتلة النيابية. عام 2005، اعترف البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بزعامة العماد ميشال عون بعدما فاز الأخير في كسروان وحقق «تسونامي»، كما وصفه النائب وليد جنبلاط آنذاك. وفي عام 2009، قال رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل قبل جولة للعماد عون في الجنوب إن التيار يريد استرداد جزين، ما أثار عاصفة غضب لدى الرئيس نبيه بري. وفي كل الأعوام التي تلت عودة عون من باريس، بقيت بعبدا بالنسبة إليه معقلاً عونياً حتى في الانتخابات البلدية. مفارقة الدوائر الثلاث أنها، بغضّ النظر عن أي تبرير، دلّت على أن تصويتاً مسيحياً سحب من التيار ثلاث قواعد أساسية، وسيكون لهذا الأمر تأثيراته في السنوات المقبلة.
في المقابل، فإن تمكّن القوات اللبنانية من تحقيق تقدم لافت نابع من أنها حازت جزءاً من أصوات الغضب المسيحي على التيار. التصويت للقوات كان نتيجة أمرين: تصويت ملتزم ومفيد من جهة، وتصويت عقابي للتيار من جهة أخرى. من أراد الاقتراع ضد التيار في دوائر لا يوجد فيها ممثلون فاعلون للمجتمع المدني صوّتوا للقوات، ما أضاف الى رصيدها الحزبي الملتزم والمناصر، ورفع عدد أصوات ناخبيها، كما في الشمال الثالثة مثلاً. بهذه الطريقة تمكّن حزب القوات من دخول جزين وتحقيق نصر فيها، وساهم في إعادة حزب الوطنيين الأحرار الى بعبدا - وهذا ليس سهلاً - بانتخاب كميل دوري شمعون، نجل أحد ألدّ خصوم عون في دائرة كان للأحرار ثقل تاريخي فيها. أما قضية بشري فمختلفة. وقد تعاملت القوات معها على أنها خسارة حزبية مباشرة. لكن القوات والخبراء الانتخابيين يعرفون تماماً أن تركيبة القانون (وحساباته المنطقية العلمية) الذي كانت القوات تدافع عنه، لا بد أن يوصل الى هذه النتيجة، واحتمال عدم حصولها كان سيكون مفاجئاً.
في المشهدية العامة، ظهر أن المسيحيين صوّتوا حزبياً وعادوا الى ثنائية القوات والتيار. لكن النظرة المفصّلة تعاكس ذلك، ولو أن الحزبين حصدا كمية كبيرة من الأصوات. صوّت المسيحيون وأعادوا انتخاب النواب المستقيلين من المجلس النيابي إثر انفجار الرابع من آب. وهذا ليس أمراً عابراً، ولا سيما أن اثنين منهم هما النائبان ميشال معوض ونعمة افرام (والنائب ميشال ضاهر من خارج المستقيلين) في خصومة مع التيار وفازوا من دون التحالف معه.
المسيحيون لم يعطوا أصواتهم التفضيلية فقط للمسيحيين المرشحين في لوائح المجتمع المدني

وتجديد انتخاب المستقيلين، وإعادتهم بقوة الى المجلس النيابي، يكسر في جزء منه المشهدية الحزبية الثنائية، ولا سيما أن المستقيلين عادوا ومعهم زملاء جدد الى المجلس. ومن شأن ذلك أن يضع هؤلاء في مرتبة مختلفة كونهم جدّدوا شرعيتهم التمثيلية بمستويات عالية، وسيجعلهم من الآن وصاعدا في موقع أقوى في مفاوضاتهم السياسية نيابياً وحكومياً ورئاسياً.
وللمجتمع المدني حصته من أصوات المسيحيين. النظرة الأولى أوحت بأن التصويت للمجتمع المدني هو للائحة فحسب، وأن المسيحيين لم يعطوا أصواتهم لشخصيات «مسيحية» في اللوائح إلا لكونها ضمن اللائحة. لكن قراءة هادئة للوائح وأصوات المرشحين في الشمال والشوف وبيروت، تدل على أن المسيحيين اقترعوا لوجوه جديدة وأعطوا أصواتهم المرتفعة لشخصيات مشهود لها. فأن تحصل النائبة نجاة عون على 9932 صوتاً، فهذا يعطي لمحة واضحة عن تثبيت فكرة المتفلتين من تأثيرات العائليات والأحزاب ودورهم في ما آل إليه التصويت، علماً بأن النتائج التفصيلية تعطي إشارات تحتاج الى وقت لدراستها عن أن المسيحيين لم يعطوا أصواتهم التفضيلية فقط للمسيحيين المرشحين في لوائح المجتمع المدني.
أهمية ما حصل في الاقتراع المسيحي أنه أعاد التوازن على مستويات عدة، وأدخل دماء جديدة الى الساحة المسيحية من مستقلين وخارجين عن الإطار الحزبي، لكنّ تحدّي هؤلاء في كيفية وضع إطار حقيقي لأدائهم السياسي بعيداً عن السياسة الضيقة حتى لا يتحوّل وجودهم إلى ربح بلا طائل.