ظهّرت الرسائل التي وجّهها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى كيان العدو مجموعة حقائق لقطع الطريق على أيّ خيارات عدوانية تستند إلى تقديرات ورهانات خاطئة. أوّلها أن حزب الله بكامل الجهوزية العملياتية التي تُمكِّنه من خوض مواجهة عسكرية - وإن كان لا يريدها - أياً كان حجمها وأمدها الزمني، وأن التحديات الداخلية - السياسية والاقتصادية والمالية - لن تكون على حساب هذه الجهوزية.في مراحل سابقة، استند كثير من الرسائل الردعية إلى متغيّرات ارتفعت معها احتمالات أن يبادر العدو إلى اعتداءات مدروسة، من دون استبعاد فرضية وجود معطيات ومعلومات لدى المقاومة تُعزِّز هذا الخيار. مع ذلك، يصبح توجيه الرسائل أكثر إلحاحاً في حال اجتماع ثلاثة عناصر: الدوافع والجهوزية وإمكانية الوقوع في فخّ التقديرات الخاطئة.
بعبارة أخرى، رغم افتراض استبعاد السيناريو الحربي استناداً إلى «عقلانية» العدو وإدراكه كلفة مثل هذا السيناريو وعدم تيقّنه من جدواه، ينبغي التعامل معه كأمر مطروح بقوة كلما ارتفعت احتمالاته. وكنموذج على هذا المفهوم، يقول رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) الأسبق إيلي زعيرا، إن من العبر التي استخلصها منذ الإخفاق الاستراتيجي الكبير في حرب تشرين 1973، بسبب استبعاد أن يبادر الجيشان المصري والسوري إلى شنّ حرب على إسرائيل، «أنني أحتفظ دائماً في جيبي ببطاقة عليها أسئلة: ماذا لو لم يكن كذلك؟ ماذا لو كانت تحليلات خبراء الاستخبارات مغلوطة ولم تكن لديهم صورة كاملة؟ ماذا لو عمل العدو بطريقة تغاير توقعاتنا وبأسلوب لا نملك القدرة على رؤيته وفهمه؟». وبطبيعة الحال تصبح هذه الأسئلة أكثر من ضرورية كلما ارتفعت خطورة نتائجها ولامست الأمن القومي والوجود.
في المبدأ، لدى العدو دائماً دوافع للاعتداء على لبنان. لكن، هل يعني ذلك أن على المقاومة أن تبقى دائماً في قمة الجهوزية، وهو أمر لا يطيقه أي جيش في العالم؟ الجواب هو أن المقاومة، في ظل ظروف لبنان، تحتاج إلى المحافظة على قدر من الجهوزية على مدار الساعة، وهو ما حال طوال السنوات الماضية دون أن يلتقط العدو فرصة غفلة تمكّنه من الانقضاض. أما قمة الجهوزية فتختصّ بمحطات مُحدَّدة ومحدودة.
مع ذلك، نجحت المقاومة في زرع اليأس في وعي قادة العدو إزاء بعض السقوف التي كان يعتبر تجاوزها خطاً أحمر، وفي فرضها كأمر واقع. ويظهر انعكاس هذا المفهوم في اعتراف رئيس وحدة الأبحاث في «أمان»، العميد عميت ساعر، في مقابلة مع صحيفة «إسرائيل اليوم»، بأن «الاعتقاد بإمكانية منع تعاظم قوة حزب الله أمر غير منطقي». وهو إقرار يأتي بعد فشل كل محاولات العدو، منذ حرب 2006، في منع هذا التعاظم بمختلف الوسائل السياسية والاستخبارية والعسكرية والتهويلية. أضف الى ذلك مستجدّات في البيئة الإقليمية لا تستطيع إسرائيل مواجهتها بمفردها، وهو ما أشار إليه ساعر بأن «هناك اليوم توسُّعاً في الجبهات وفي التهديدات».
مع ذلك، هناك مستويات من التعاظم لا تطيقها إسرائيل أحدثت تطوراً نوعياً في معادلات القوة. وقد لفت ساعر إلى ذلك بالقول: «سابقاً، كانت قدرة حيازة 50 كيلوغراماً من المواد المتفجّرة، ونقلها مسافة 1500 كلم، وإصابة نقطة محددة، محصورة بالقوى العظمى. اليوم، هذه القدرة موجودة في يد جماعات في اليمن والعراق» في إشارة إلى سلاح المسيّرات. والأمر نفسه ينسحب على الصواريخ الدقيقة التي كانت «في الماضي، محصورة بالدول العظمى. (لكن) مع التكنولوجيات اليوم، أصبح الأمر أبسط»، مُقراً بمحدودية قدرات إسرائيل في مواجهته. فـ«منذ اللحظة التي حقّق الإيرانيون ذلك وتعلَّموه، كان واضحاً لنا أننا غير قادرين على منعه إلى الأبد»، وأن قدرات إسرائيل تقتصر فقط على «إزعاجهم وعرقلة عملهم»، ولذلك يحاول الجيش الإسرائيلي بلورة حلول من نوع آخر: «الوقاية والدفاع، وصولاً إلى الهجوم. هناك سباق على التعلم».
يعني ذلك أن إسرائيل إذا ما أرادت المبادرة إلى خيارات عدوانية، سيتركّز ذلك بالضرورة على ما يتعلق بهذا النوع من القدرات، مع اليقين بأنها لن تستطيع منعه، وإنما في أحسن السيناريوهات تأخيره أو إرباكه. وضمن هذا الإطار يقول ساعر: «يتعيّن علينا أن نُحدِّد أين لا نريد أن تتعاظم قوة العدو، وأن نركز الجهود على ذلك. يجب العثور على نقاط ضعفه والعمل عليها». لكنّ مشكلة إسرائيل تكمن في أن هذا المسار في حركة تطور دائمة كما أعلن الأمين العام لحزب الله سابقاً.
على المستوى النظري، الظرف المثالي لتنفيذ خيارات عملياتية مُحدَّدة ضمن هذا الإطار، هو عندما يكون جيش العدو في قمة الجهوزية. لذلك، فإن ما دفع حزب الله إلى رفع مستوى جهوزية المقاومة هو أن جيش العدو سيكون في كامل جهوزيته العملياتية أثناء تنفيذه المناورات التي يجريها الشهر الجاري، وإمكانية أن يتوهّم أحد في قيادة العدو بأن الوضع الداخلي اللبناني قد يقيّد قدرة حزب الله على الردّ على اعتداءات موضعية. والأهم أن إعلان السيد نصرالله عن رفع مستوى جهوزية المقاومة والالتزام القاطع والعلني بالرد بدَّد أي تقديرات أو أوهام في هذا الاتجاه، وزرع في وعي العدو حقيقة أن أي خطوة عدوانية ستُقابل بردّ ينطوي على إمكانية التدحرج، وأن من عليه القلق من هذا السيناريو هو العدو أيضاً. ونتيجةً لذلك باتت مؤسسة القرار السياسي والأمني في كيان العدو أمام واقع مغاير للظروف التي كانت تأمل توفّرها للانقضاض المدروس والهادف. فلا جهوزية جيش العدو حقّقت الردع المنشود، بعدما أبطل نصرالله هذا الرهان بالالتزام العلني، ولا الإعلان عن مناورة شاملة يمكن أن يشكل غطاء وتضليلاً ناجحاً بعدما أعلن حزب الله رفع مستوى جهوزيّته في مقابل جهوزية جيش العدو.