الجسور، حيث يحتمون من أشعة الشمس الحارقة، وتزدحم السيارات، ويكثر مرور الناس، هي نقاط تجمّعهم المثالية. منذ ساعات الفجر الأولى يبدأ دوام عملهم. يجلسون على حوافّ الأرصفة أو الخرسانات الإسمنتية، أو يتمدّدون حتى آخر النهار، بانتظار أن يبتسم لهم الحظ ويأتي من يطلب خدمات تحتاج إلى قوتهم البدنية. إنهم عمّال «اليومية»يحمل الكثير من المفارقات أن تُحدّث العمّال المقيمين تحت الجسور عن عيد العمّال. كلّ ما يمتّ إلى معنى هذا العيد أبعد ما يكون عن واقعهم. فهم يعملون في أشغال شاقّة بحثاً عما يسدّ الرمق، محرومين من كلّ الحقوق وخارج أي مظلة تأمينية وصحية واجتماعية، وكثيراً ما يتعرّضون لـ«نصب» أجرة يومهم، فلا ضمانات لهم إلا «أودمة» طالب الخدمة، فيما لا مكان يلجأون إليه ليشكوا الظلم الذي قد يقع عليهم.
في بيروت تراهم في نقاط مختلفة أبرزها السلطان إبراهيم، جسر فؤاد شهاب، ساحة الغبيري، الأشرفية، حي السلم… للحديث إليهم والسؤال عن أحوالهم وواقع الأعمال في ظلّ الظروف الاقتصادية كانت الوجهة جسر المطار الذي يصطف عشرات العمال تحته بانتظار الفرج.
حالما يرون من يحمل ورقة وقلماً، حتى يعتقدوا أنه يتبع لإحدى الجمعيات الخيرية، فتنهال الشكاوى من «الأمم» (مفوّضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين في لبنان) التي تؤخر مواعيدهم معها، ومن الجمعيات التي تأتي وتسجل أسماءهم وعناوينهم وحاجاتهم ولا تعود. أغلبهم سوريون من منطقة دير الزور شرقي سوريا، يعيشون في مخيمات صبرا وشاتيلا، تقطّعت بهم السبل ووجدوا أنفسهم بلا خيارات وعليهم أن يتدبّروا أمور معيشتهم بقوتهم البدنية وحدها.

عرضة لـ«النصب»
«ردم، حفر، نقل أثاث، عتالة، تنظيف، توريق، سنكرية… وكل ما يمكن أن يخطر على بالك من أعمال مهما كانت صعوبتها هم على أتمّ الاستعداد لتقديمها». غير أن الأعمال متراجعة جداً بفعل الأحوال الاقتصادية في لبنان «نعمل يوماً، وعشرة لا» في مقابل أجرة لا تتناسب مع الجهد المبذول، كما يؤكد أحمد الأسود العامل الثلاثيني الذي يتحدّث عن تعرضهم للاستغلال، فبعض الناس «يستغلون كثرتنا وحاجتنا إلى العمل، ومن أجل ذلك يخفّضون الأجرة ولا نملك إلا أن نقبل بالأجر الزهيد رغم التعب الكبير فهو أفضل من العودة إلى المنزل بأيدٍ خالية». عمل أحمد خمسة أيام في ورشة بديكورات الجبصين في دوحة عرمون مقابل مليون ليرة لم يرَ منها فلساً. «اتصل بالمشغّل الذي أخذني من تحت الجسر يومياً فلا يردّ على الهاتف». ويعرض رسالة واتساب من زوجته تطلب منه أن يتصرّف لأن طفله الرضيع بحاجة إلى الحليب، علماً بأن لديه 6 أولاد.
بعض الناس يستغلون كثرتنا وحاجتنا إلى العمل فيخفّضون الأجرة


مثنى هو الآخر شاب نحيل الجسد، عمره 17 سنة، تعرّض للنصب من أحد المطاعم الشهيرة في بيروت التي عمل فيها لشهر ونصف شهر من دون أن يتقاضى أجرته البالغة 3 ملايين ليرة. يسأل إذا كان بالإمكان مساعدته ليستردّ حقه «لا مكان ألجأ إليه لأشتكي ولو ذهبت سأتعرض للضرب من الحراس».
أما طارق الأحمد سالم الذي يعمل في الكهرباء ولديه 5 أولاد فيروي أن أحدهم ذات مرة طلب منه تنظيف شارع من النفايات «بقيت 3 ساعات عم نظف زاروبة مليانة زبالة عند المدينة الرياضية وجمعتها في أكياس وعندما انتهيت قال لي برافو وذهب. حتى إنه لم يعطني مبلغاً يعيدني إلى البيت».

الحلم بالهجرة
قصصهم المؤلمة متشابهة كما وجوههم المتغضّنة التي لوّحتها أشعة الشمس الحارقة. «وضعنا عدم» يقول علي. ويضيف: «من لم يعش حياتنا لن يعرف المعنى الحقيقي للفقر». الشواهد جاهزة «فقط تعالوا إلى بيوتنا، والله أحياناً نغمّس الخبز في الماء لنأكل». جميعهم يشتكون من غلاء الإيجارات، فأجرة غرفة واحدة في المخيم بمليون ليرة، ما عدا اشتراك الكهرباء بـ 700 ألف ليرة، أما المياه التي يشترونها فمالحة. بعضهم لا ينال ليرة من مفوضية اللاجئين أو الجمعيات «التي تتقاضى أموالاً على ظهر السوريين فيما لا يصلنا منها شيء» كما يقول، في المقابل يؤكد آخرون أنهم يتقاضون بدلات سكن ومساعدات عينية من المفوضية لكنها مع ذلك تبقى غير كافية.
قلّة الأعمال والمردود الذي لا يلبي الصعوبات المعيشية القاسية دفعا محمد بري، الذي توفيت زوجته بعد ولادة طفلهما، إلى أن يذهب إلى مفوضية اللاجئين حاملاً طفله ليسرعوا في بتّ ملفه ومساعدته لأجل شراء الحليب والحفاضات «آخر مرة قرّرت ترك ابني أمام المركز لكن الحرّاس رأوني». أما حسن جاسم محمد الذي يعيش في غرفة صديقه الناطور مع أطفاله الثلاثة، من دون أن يدري سكان المبنى، فيسأل عن طريقة للسفر من لبنان حيث لا عمل، كما لا أمل في العودة إلى سوريا حيث سُوّيت المنازل في الأرض «قدّمت 9 شكاوى للمفوضية ولا جواب، ولا مال عندي للهرب عبر البحر» تدمع عيناه ويفتح فمه ليكشف عن أضراسه التالفة التي لا يملك حتى ثمن نزعها «عم ينذلوا ولادي، وإذا ضلّ الوضع هيك منموت من الجوع».

الحاجة أم الحيطة؟
في أثناء اللقاء أتى شاب على دراجة نارية، تجمّع حوله العمال، كل واحد منهم كان يأمل أن يقع الاختيار عليه. المهمة كانت حفر جورة في انطلياس. يحتاج إلى عامل واحد مقابل 250 ألف ليرة أي نحو 9 دولارات. يركب أحدهم خلفه على الدراجة، فيما يعود الباقون أدراجهم إلى الظلّ. يشرح طارق أنهم يذهبون مع أول طالب للخدمة يأتي ليأخذنا ويذهب بنا حيث يريد. هنا تصحّ مقولة «الحاجة أقوى من الحيطة».
كما يعتمد العمّال خدمة الواتساب، فمن أُعجب بعمل أحدهم يعطي رقم هاتفه لطالب الخدمة. وهكذا إلى الجسر، ينتظرون أن يرنّ الهاتف. في هذه الحال «نسأل عن الأجرة، ونضطر أن نحسبها لأن بدل العمل أحياناً يكفي كلفة المواصلات فقط، فنرفض المهمة» يقول علي. ويضيف: «الحكي كتير ما بيخلص. أهم شي اكتبي أننا نعاني من ضعف بالتغذية وعم ينّصب علينا وما في مين يحمينا، ولا مين يعوّض علينا». هؤلاء عمال بدون إجازة عيد العمال، التي يحظى بها العمال في القطاعات النظامية. ولا يتمنون الإجازة أصلاً. فيوم من دون عمل على الأرجح هو يوم النوم في بطون خالية.