تاريخياً، شكّلت «النخب» سنداً أساسياً لقوى السلطة. جمعهما سويّاً تبادل المنافع والمصالح. فاستفادت هذه «النخب»، بشكل أو بآخر، من الامتيازات التي أمّنتها لها قوى السلطة من خلال النموذج الاقتصادي القائم ما حفّز مغتربين كثراً على العودة. لكن، الانهيار خلق معطيات جديدة، إذ وجدت النخب أنّ ثمن الولاء على مدار عقود كان مكلفاً، وأنها مضطرة اليوم أن تدمج مصالحها بمصالح المجتمع، فيما هي راغبة وساعية لاستعادة امتيازاتها السابقة. هذه الامتيازات تمرّ حصراً عبر تحديد الخيارات: مع صندوق النقد أو ضدّه؟
أهدرنا خلال عامين ونصف العام نحو 20 مليار دولار (هيثم الموسوي)

يبدو مذهلاً غياب المعرفة الاقتصاديّة لدى الكثير من «النخب». حاملو هذه الصفة، اكتشفوا متأخّرين مساوئ النموذج الاقتصادي المنهار رغم إيمانهم العميق به. فقد فوجئوا قبل نحو سنتين ونصف السنة بأنهم يحتاجون إلى تثقيف اقتصادي لفهم ما يحصل وكيف وصلنا إليه. هذا ما دفع العديد من نقابات المهن الحرة إلى الاستعانة بخبراء اقتصاديّين لاستيعاب ما حصل والاستماع إلى الحلول المتوافرة للخروج من الأزمة. فنقيب الأطباء شرف أبو شرف يتحدّث عن «اجتماعات عقدناها مع خبراء اقتصاديّين لنفهم قدر الإمكان حجم المصيبة التي نحن فيها، وكيف وصلنا إلى هذا الدّرك ومن المسؤول فعلياً عن تبخّر ودائعنا. فقدنا أموالنا ومدّخراتنا وتبخّرت أموال صندوق التقاعد». الأمر نفسه ينطبق على نقابة المحامين التي ألّفت لجنة من محامين ومرصد يضم خبراء اقتصاديين اجتمعوا مع وفد صندوق النقد، إضافة إلى متابعتهم الدائمة للشأن الاقتصادي. أما رئيس الجامعة اللبنانيّة البروفيسور بسام بدران فيجيب بصراحة أنه «غير مطّلع على الشأن الاقتصادي ولا خبرة لي في هذا المجال. أتابع مثلي مثل غيري ما يتداول في الأخبار. ونسمع وجهات نظر متناقضة، بعضها يحذّر من سياسات صندوق النقد وبعضها الآخر يعتبر أنّ لا مفرّ من الاتفاق معه».
نقيب المحامين ناضر كسبار غير متفائل بأيّ اتفاق مع صندوق النقد خاصة إذا «كانت الأموال ستقدّم كما جرت العادة على طريقة السلّة المفخوتة. في هذه الحال الأفضل ألا يُعقد الاتفاق. أساساً كم سيمنحنا صندوق النقد؟ ثلاثة مليارات دولار؟ لقد صرفنا خلال عامين ونصف العام نحو 20 مليار دولار ذهبت هدراً. أضف إلى ذلك، أنه بحسب خبراء اقتصاديّين استمعنا إليهم، فإنّ البلد بحاجة إلى 10 مليارات دولار سنوياً ليتعافى. فماذا ستفعل الـ 3 مليارات في هذه الحالة؟».
نقيب الأطباء مؤمن أنّ لبنان ليس بحاجة إلى أحد. يقول: «لدينا كامل الطاقات والإمكانات للنهوض مجدداً، شرط توافر الأخلاق والكفاءة والقضاء النزيه والفعال». ويلفت إلى أنّ «صندوق النقد طلب مقابلتنا. اجتمعنا معهم مرتين. وفهمنا منهم أنّ الحلّ الذي كان مطروحاً من قبل حكومة حسان دياب، كان صندوق النقد راضياً عنه، ولكن تم تطييره. خطّة حكومة حسان دياب حيّدت المودعين. لكن الحلول الحالية المطروحة تركب الحلّ على حساب المودعين».
ما يمكننا القيام به قبل الانتخابات أكثر بكثير ممّا يمكننا فعله بعدها


يؤكّد رئيس نادي قضاة لبنان فيصل مكي أنّ «لا معرفة لنا بما يدور في اللقاءات بين الحكومة وصندوق النقد. الأمور تجري في الكواليس. لكنّ منطق الأمور يشي بأنّ المسار المتّبع هو عكس المسار الطبيعي والمنطقي الذي يجب أن يسلك. الاتفاق مع صندوق النقد يفترض أن يسبقه إقرار مجموعة من القوانين. وما الفائدة من وجود أفضل القوانين إذا لم يكن هنالك قضاء مستقلّ وفعال قادر على تطبيقها والسهر على تنفيذها. البداية تكون بضمان استقلالية القضاء. وفي هذه الحالة لن نكون بحاجة إلى صندوق النقد، إذا ما استعيدت الأموال المنهوبة والمهرّبة».
يرفع كسبار الصوت عالياً مشيراً إلى أنّ «نقابات المهن الحرة لن تسكت عمّا يجري ويُخطّط له». الأولوية له تكمن في «استعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة سواء إلى خارج لبنان أو التي بقيت داخل لبنان. وبرأيي فإنّ هذه الأموال لا تزال موجودة ويجب أن يُمارس القضاء دوره لكي تُسترد». ويشدّد على أنّ «المتورطين يجب أن يشعروا بالسخن وأن يعلموا أن هنالك إجراءات رادعة ستتخذ بحقهم وخاصة رؤساء مجالس إدارة المصارف وأعضاء مجالس إدارتها».
أما الانتخابات فتُثير المخاوف أكثر ما تبعث على الاطمئنان كونها بحسب كسبار «لن تغيّر شيئاً. فالعقلية نفسها هي السائدة. وأنا أعتقد أنّ ما يمكننا القيام به قبل الانتخابات أكثر بكثير ممّا يمكننا فعله بعدها. فبعد الانتخابات سيعزّزون من مشروعيّتهم ويضمنون 4 سنوات إضافية وحينها ما حدا رح يسأل عن حدا». من جهته يعتبر أبو شرف أنه «إذا كان الذين خرّبوا البلد هم من سيؤمنون الحلّ فلن نصل إلى أيّ مكان. ومن جرّب مجرّب كان عقله مخرّب».
وفي خضمّ النقاشات الدائرة والشعارات الرنانة المرفوعة يحذّر بدران «من الخطر الداهم على مستقبل لبنان وشبابه في حال غياب أي سياسات اقتصادية ومالية بعد الانتخابات. الاقتصاد يجب أن يكون الأولوية وتحديداً التربية. خريجو الجامعة اللبنانية وحدها يؤمنون مليارات الدولارات سنوياً للاقتصاد. هل يُعقل أنّ موازنة الجامعة اللبنانية لا تزال كما العام 2019 أي 246 مليار ليرة، والتي باتت تساوي نحو 10 ملايين دولار بدل 176 مليون دولار؟ كيف يصمد التلامذة والأساتذة والموظفون؟».