لا يمكن إلا التوقف مراراً عند الناخبين في لبنان، مع اقتراب موعد 15 أيار، نظراً إلى السلوكيات المتمادية التي يعبر عنها هؤلاء بشراسة تفوق شراسة المرشحين. ففي قضاء بعبدا، مثلاً، ما لا يقل عن ستة مستشفيات، بعضها تابع لمؤسسات كنسية، تعاني في معظمها أزمات مالية واستشفائية حادة، وأحدها يعاني في شكل فادح ومستمر منذ سنوات. كما أن فيها مجموعة مدارس يتعثّر بعضها تحت وطأة أزمة الدولار وارتفاع سعره. ومع ذلك تنشط الحركة الانتخابية في بلدات هذا القضاء المسيحية، وترتفع أعلام القوات اللبنانية وحزب الكتائب والتيار الوطني الحر، ولا يكاد يمر يوم إلا ويجول مرشحو هذه الأحزاب والقوى الأخرى على البيوت لعقد اجتماعات ترويجية. في هذه البلدات، لا تؤمن المولدات الكهربائية سوى ست ساعات تغذية من أصل 24 ساعة. فتغيب الكهرباء عن معظم المنازل في النهار، وبعضها اخترع تقسيم الناس فئتين: واحدة للميسورين الذين يدفعون دولاراً طازجاً فتؤمن لهم الكهرباء بمعدل 12 إلى 18 ساعة، وفئة الذين يدفعون بالليرة فلا ينعمون إلا بنحو ست ساعات يومياً. في هذه البلدات مئات محطات المحروقات التي أذلّت الناس في مرحلة أزمة المحروقات، وتحول أصحاب المحطات فيها إلى مرشحين كما أصحاب المولدات.
هذا القضاء نموذج عن أقضية لبنانية متشابهة في وضعها الاقتصادي والمعيشي. ورغم الانهيار الكبير في الواقع الحياتي، فإن نشاط الناخبين في هذه الأقضية وغيرها يبدو متقدماً عما كان عليه عام 2018. فتكاد حركة هؤلاء توازي حركة المرشحين، في عقد لقاءات ترويجية، وتنظيم حفلات غداء وعشاء لمرشحين، وتنظيم لقاءات أحياناً تحت عباءة مؤسسات كنسية ودينية متفرقة. يتبرع الناخبون بدورهم كمفاتيح انتخابية للمرشحين، يتصلون بالقواعد في لبنان والاغتراب، يعملون على تنسيق تبرعات، وعلى تأمين المتطلبات الضرورية للقرى الصغيرة، كما يحصل في الجبل والشوف وعاليه، لجمع الأصوات والحواصل بأي ثمن.
فكلمة السر المتداولة هي جمع أكبر عدد من الأصوات وإن كانت لا تتعدى العشرات، لأن الرهان على رفع نسبة المشاركة في الانتخابات في شكل كبير على عكس ما جرى في الانتخابات الماضية. قياساً لانتخابات عام 2018، وتغير المناخ السياسي بين القوى المشاركة ودخول المجتمع المدني والمستقلين بقوة أكثر على المشهد الانتخابي ولو مشرذمين، فإن هذه النسبة تشكل للجميع رافعة انتخابية وتحدياً يترجم في أساليب حث الناخبين على المشاركة الكثيفة. وفي غياب البرنامج الانتخابي يبدأ كلام المرشحين في لقاءاتهم برفع نسبة المشاركة، إضافة إلى التصويت للائحة الأوفر حظاً فلا يضيع التصويت على لوائح (وخصوصاً المعارضة) لن تتمكن من تأمين الحاصل.
يسعى المرشحون من معظم الأحزاب إلى المشاركة الكثيفة ليس خوفاً من نتائج مضمونة بل للاستفتاء الشعبي
لكن هل صحيح أن رفع نسبة المشاركة سيكون عاملاً مؤثراً فعلياً في الحياة البرلمانية والمشهد السياسي؟ سياسيون رافقو دورات انتخابية عدة، لا يقرون بهذه المقولة، لأن ارتفاع النسبة يعني بطبيعة الحال بالنسبة إلى القوى الحزبية، تقنياً، رفع الحواصل، لكنه يعني عملياً بالنسبة إلى العملية الانتخابية إظهار اللعبة الديموقراطية ومشهداً انتخابياً يعكس حجم تورط اللبنانيين في الانتخابات لصالح أحزابهم وانتماءاتهم السياسية.
يراد بالانتخابات ورفع نسبة المشاركة فيها، قياساً للدورة الماضية، الدلالة على حجم الاستنفار السياسي بين معارضة وموالاة، والمظهر الانتخابي الاحتفالي كوجه من وجوه العمل السياسي. تبعاً لذلك يسعى المرشحون من معظم الأحزاب إلى اللعب على وتر المشاركة الكثيفة، ليس خوفاً من نتائج مضمونة بالنسبة إلى أحزاب ونواب في دوائر معينة، بل لكونها أقرب إلى الاستفتاء الشعبي وليس تأمين المقاعد وتأكيد المؤكد. لأنه عدا ذلك ستسير عجلة الإدارة الذاتية للسلطة كما هي الحال دائماً، وتجربة عام 1992 وما بعدها دلت على ذلك. إذ قاطعت أكثرية المسيحيين ومع ذلك شكلت حكومات وسنّت قوانين وظلت الحياة «الديموقراطية» قائمة.