أشياء كثيرة تغيرت في الطريقة التي يصوّر فيها الفن والصحافة والصور والاخبار حقيقة الصراع، لكن شيئاً واحداً لم يتغيّر بمرور الوقت: إضفاء الطابع الرومانسي على الصراع العربي - الإسرائيلي. أصبحنا متفرجون، استهلاكيين مشبعين بالصور والمشاهد، وزاد انفصالنا عن الواقع، فيما الشاشة تشتتنا وتهدئنا. العنف الظاهر على الشاشة فعال جداً لجذب الانتباه، لكنه، كأي منبه ومحفز آخر، يفقد تأثيره مع التكرار. نعيش في مجتمع استهلاكي تلتهم فيه الصور والمشاهد الاحداث الجارية وتتجاهلها في الوقت نفسه. تفقد المعلومات مكانتها وتصبح أخباراً، سرعان ما تتحوّل بائتة مع تقدم الدقائق. نحن مشبعون بالمعلومات ونفتقر إلى المعرفة، نعيش في الفورية وسطحية الصورة اللحظية. ورغم أننا ننتقد وسائل الاعلام والصور والمشاهد، إلا أننا نطالب بالمزيد من الاحاسيس. نطالب بالرومانسية، بصور تخدرنا وتعطينا لحظات من النشوة.

(ناجي العلي ــ فلسطين)

نطالب بالعنف على الشاشة ليصبح القاعدة وليس الاستثناء، نضفي الطابع الرومانسي على المقاومة، ولذلك نصرنا المثالية على الواقعية والرومانسية على البراغماتية. العنف على الشاشة يخدرنا عاطفياً ونصبح لا مبالين، نطالب بالحنين والعاطفة. التكرار يجوّف الواقع، يكسر طرقنا المعتادة في التجربة والادراك. صور ومشاهد فلسطين أصبحت تؤذي الواقع وتجزئه إلى أجزاء صغيرة قابلة للتسليع.
رغم أهمية الصورة التي لعبت دوراً كبيراً في فلسطين، وكانت سلاحاً بيد الفلسطينيين (نُشرت كاتالوغات مصورة كثيرة مثل «لقطات مغايرة: 1850-1948 التصوير المحلي المبكر في فلسطين»، وأشهرها «الفلسطينيون: صور لأرض وأهلها من 1839 حتى اليوم» للكاتب الياس صنبر)، وأيضاً رغم دورها المهم في معركة «سيف القدس»، إلا أننا نبحث عن علامة النصر في صور فلسطين على أنها شكل من أشكال الهوية الفلسطينية، ومثال جميل لنجاحهم ووجودهم وثقافتهم، ولكن لا علاقة لها ببؤسهم ومعاناتهم وحربهم. نختصر المقاومة والقوة بصورة. الصورة ليست لها قوة، بل نحن نعطي القوة للصور لأننا نحتاجها وسيلة للتواصل. وسيلة تُعلم عن الحقائق المادية، فضلاً عن تمثيل المنطق الاجتماعي والسياسي لمجتمعاتنا، وسيط يتخيل الهويات ويجسد رغباتنا الفردية والجماعية. ومن دون أي شك، نحن نفضل الصورة على الأصل، ونفضل تمثيل الواقع على الوجود، لذلك تتضاءل الحقيقة وينمو الوهم. نعيش في الاستهلاك الترفيهي لصور الصراع، وبدل سرد التاريخ والثقافة نقدم الصور على أنها خريطة أو مجموعة واسعة من عوامل الجذب والتأثير من دون أصل أو نشأة محددة. «تصوير الناس هو انتهاك لهم» قالتها سوزان سانتاغ، لذلك كلما ازدادت صور العنف والقتل والحرب التي نشهدها في فلسطين، كلما أصبحنا أكثر مناعة تجاهها. تعمل الصور على تغيير مفاهيمنا حول ما يستحق النظر إليه وما يحق لنا مراقبته. ورغم أهمية رؤية ما يحدث في فلسطين وأهمية نشر الظلم واللاإنسانية والمعاناة، إلا أن الصور اليوم أصبحت حقيقة يتوسطها عدم التمييز بين الرغبة والحاجة لها، بين المسافة منها وتأثيرها علينا، بين تسجيلها بالذاكرة أو محوها لأن هناك ألوفاً غيرها. لذلك كثرتها اليوم لا تولد دائماً وعياً بالألم أو تؤدي إلى رفض حالة الظلم، فالمعاناة شيء والتعايش مع الصور الفوتوغرافية للمعاناة شيء آخر. لذلك، الصور سيف ذو حدين، تؤثر وتولد النفور، تساعد على إدراك المعاناة ولكن تعرضنا لها بشكل مفرط يخدرنا ويشلنا. تتلاشى صدمة الفظائع التي يتم تصويرها بتكرار، صور فلسطين الكثيرة اليوم تخدر الوجدان بقدر إيقاظه.
لا تكمن المشكلة في التصوير نفسه، بل في انتشاره على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي لملايين الأشخاص حول العالم، الصور والمشاهد التي نراها مراراً وتكراراً على الشاشات سينتهي بها الامر إلى إثارة اشمئزازنا، يؤدي التعرض المفرط لصور ومشاهد معاناة الفلسطيني إلى الإرهاق. لذلك ليس الصور هي التي تمنعنا من رؤية معاناتهم، بل هي اشكال تداولها وسياقها. من العبث عدم الاستجابة لمعاناة الفلسطينيين، من العيب أن نصبح مستهلكي أخبار لا نعرف شيئاً عن الحرب والظلم والإرهاب.


نقلل من أهمية الواقع، ونلحق الصورة والمشهد اليومي من دون الاهتمام بالسرد، نتملص من العمق ونستهلك العنف الذي يعمل كمسكن وحيد للملل، ونجلس أمام الشاشة منتظرين فقط وصول الكارثة، أصبحنا «مجتمع المتفرجين» الذي كتب عنهم غي ديبود عام 1967. نشاهد احداث فلسطين على الشاشة فقط كمرآة لما يحدث الآن، نتعامل معها كما لو أنها كانت مبتكرة وليست حقيقية. ونمتلك، نحن المتفرجين، جهاز تحكم عن بعد كأداة تحرير، نستخدمها عندما ننهي التعاطف، ثم عندما نبدأ بالشعور بالذنب نعود اليها لسماع الاخبار الجديدة السريعة.
هناك حمل زائد للصور والمشاهد يفقد تركيزنا ويقوض قدرتنا على معالجة ما نراه، عندما يتم إظهار المشهد نفسه مراراً وتكراراً على شاشة التلفزيون أو على وسائل التواصل الاجتماعي تأثيرها ينضب. ننتقل ونحن جالسين على الكنبة من أخبار فلسطين إلى الحرب في أوكرانيا إلى برنامج ترفيهي... كأننا ننهي معاناة لننتقل إلى أخرى، وإن مللنا ننتقل للترفيه. الشاشة اليوم خاصة من فلسطين لا تقدم المعلومات، فقط مشاهد مكررة تميع القضية. تلفزة قضية فلسطين أصبحت برنامجاً يومياً، ننظر إلى ساحات المسجد الأقصى من مسافة «الأمان»، كأن ليس هناك ضحايا، فقط مشاهد وصور بشكل روتيني مع وجهات نظر مصطنعة. فلسطين أصبحت اليوم برنامجاً تلفزيونياً أو فيلماً على منصات التدفق الرقمي، أدت إلى التساهل العاطفي بدلاً من الإدانة الساخطة. أخبار فلسطين على الشاشة اليوم أصبحت مجردة من التاريخ، مجزأة ومفتتة. سلسلة من القصص جميعها بنفس الشكل والمشاهد والصور، تتسلسل الاحداث من دون تفسيرها، وتختفي فجأة ليأتي غيرها، بعد تجريدها من أي سياق سياسي أو تاريخي او إنساني. فلسطين أصبحت مأساة غير مترابطة، برنامج يومي خارج منظور القضية او التاريخ لا تختلف كثيراً عن أخبار الكوارث الطبيعية. فلسطين أصبحت من الطقوس الصحفية، تركز على الاحداث التي يمكن ببساطة تغطيتها، والضحايا يتم تقديمهم مثل أولئك الذين تعرضوا لحادث سير مثلاً، وسننسى ما حدث البارحة بسبب ما يحدث اليوم، لأن كل شيء غير مترابط ولا يتبع سياقاً أو قضية.
الصور سيف ذو حدين، تؤثر وتولد النفور، تساعد على إدراك المعاناة ولكن تعرضنا لها بشكل مفرط يخدّرنا ويشلنا


فلسطين على الشاشة أصبحت سلعة، يتم إنتاجها ونقلها لنا بشكل متزايد في عرض لا نهاية له. حاضر، دائم، سريع، ونحن مدعوون دائماً كمراقبين مهووسين مقهورين. تتجرد فلسطين من قيمتها الواقعية، نستخدمها ونجسدها اليوم كما يحلو لنا. أصبحت شيئاً خاصاً، نشاطاً اجتماعياً. استبدلنا القضية بصورة ومشهد، فأصبحت الصورة حقيقية كونها سبباً لسلوك حقيقي، وانتهى الأمر بأن أصبح الواقع صورة. حيث نختصر القضية بصورة معتقل أو شهيد أو بطل مقاوم، رمسنة (من رومانسية) القضية لها عواقب وخيمة، إضفاء الطابع الرومانسي على القضية متجذر من امتياز اجتماعي بأننا بعيدون عما يحصل. تغطية أو رؤية القضية الفلسطينية بنغمة عاطفية فقط، تؤدي بالأسباب الحقيقية للصراع وخلفيتها التاريخية والسياسية والإنسانية إلى أن تصبح مخفية أو غير مرئية. كلما أصبحت الصور والمشاهد الرومانسية للمقاومين أكثر رسوخاً في عقلنا، أصبحنا اقل حساسية تجاههم. ونبعد أنفسنا عن القضية من خلال التعاطف معها فقط. صور ومشاهد فلسطين ليست مجرد صور، بل هي ذاكرة وسياق ثقافي وديني واجتماعي وإنساني وسياسي. سلاح بين أيدينا علينا أن نعرف كيف نتعامل معه. يفترض أن تكون صورة تدين وتحكي ما يحدث وحدث ولماذا، ولكن يفترض ايضاً أن نغير نظرتنا للصور، أن نطور حسّنا النقدي لما نشاهد ونرى كل يوم، الصورة والمشهد تغيرا كثيرا منذ انتقال الصورة إلى شاشة التلفزيون واليوم بين أيدينا على شاشة الهاتف. الصور والمشاهد باقية، ولكن كيفية تفكيرنا بها ورؤيتها يمكن أن تتغيرا.