على رغم ما تشهده مدينة القدس من أحداث تدلّ على جوهر الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، يستمر هذا الصراع في بُعده المزدوج، التاريخي والقانوني، عرضةً للتشويه. اذ تنتشر منذ عقود سرديّات تهدف الى التعمية، او الى تجاهل الاختلال الجذري العميق بين القوى المتنازعة، والتقليل من حجم الانتهاكات الدائمة للقانون الدولي، إضافة الى ابراز البُعد الديني حصراً لنزاع يتم تصويره على انه مواجهة بين الاسلام واليهودية في اطار صراع الحضارات المزعوم. أما الحقيقة فمختلفة تماماً. والنزاع أبعد ما يكون عن حرب دينية بين متصارعَين متعادلَين. إنها حرب بين قوة احتلال وشعبٍ مُحتلّ يحضر فيها حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها بالمقاومة في وجه الظلم والاحتلال.في الواقع، لا مجال للغموض من حيث القانون والوقائع. ناهيك عن مئات القرارات التي اتخذها مجلس الامن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولا حاجة للتذكير بأن غالبيتها الساحقة بقيت حبراً على ورق، بدءاً من خطة تقسيم فلسطين التي أقرّتها الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني عام 1947 وأوصت بإنشاء دولتين مع مطلع العام 1948 ووضعت تصوّراً لنظام دولي للقدس.
ورغم محاولات تهميشها، فإن القضية الفلسطينية لا تزال تحتفظ بمكانتها المركزية. ولا يزال مفهوم العدالة ومبادىء القانون الدولي أساساً لحلّ هذه المسألة التي تشكل المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في الشرق الاوسط وتسهم في تشويه المبادىء العامة للقانون، فلا يمكن ان يكون هناك أمن من دون سلام ولا سلام من دون عدالة. وبهذا المعنى تشكل قضية فلسطين تحدياً قائماً في وجه العدالة الدولية.
منذ الغزو الروسي لاوكرانيا، برزت مجدداً مفاهيم السيادة ووحدة الأرض والمقاومة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وجرى التشجيع على استخدام وسائل المقاومة والمقاطعة بجميع اشكالها وانزال العقوبات بحق المعتدي. ولو أن جزءاً صغيراً من هذه الردود تمّ اعتماده في الوقت المناسب في وجه اسرائيل لكانت فلسطين اليوم دولةً بكل معنى الكلمة، ولكان الصراع الذي هو مركز التوترات في الشرق الاوسط قد وجد حلاًّ له في اطار احترام القانون الدولي والعدالة والمساواة.
رغم محاولات تهميشها فإن القضية الفلسطينية لا تزال تحتفظ بمكانتها المركزية


غني عن القول ان تقاعس القوى الغربية عن التصدي للجرائم المرتكبة في فلسطين وغيرها من الاماكن، لا يؤدي الى رفض ردة فعلها في أوكرانيا ولا الى إضفاء الشرعية على العدوان الروسي، بل ان الحرب في أوكرانيا تؤكد اكثر من اي وقت مضى، ضرورة العودة في جميع الاماكن والاوقات الى مبادىء القانون الدولي - وليس الى النظام الدولي فحسب - وأُسُسِهِ وقواعده.
وإذا كان من شأن العودة الى المبادىء العامة للقانون الدولي ان تمرّ عبر أوكرانيا فلا يمكن ان تتوقف عندها فقط. وعلى المجتمع الدولي ان يظهر المطالبة نفسها في مواجهة أي انتهاك لحقوق الانسان والقانون الانساني.
إن الافلات من العقاب والادانة واعتماد المبادىء انتقائياً هي أكثر من اي وقت مضى اسلحة الدمار الشامل التي تهدد السلام والعدالة والأمن.
انها ببساطة تهدد الحضارة الانسانية.

* بروفسور في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، وزيرة عدل سابقة