حين أُبرمت التسوية الرئاسية، كانت خريطة الطريق إلى ما بعد أول انتخابات في عهد العماد ميشال عون واضحة. تسوية بدأت قبل الانتخابات، فيها التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، واستمرت إلى ما بعدها. وما بين الانتخابات وتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية التي ضمت معظم الأفرقاء، نُفّذ الاتفاق السياسي إلى أن انفرط عقده بعد 17 تشرين. مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، ورغم أن الكلام السياسي ينحصر في اللوائح والتحالفات والحواصل، يبقى مكان للحديث عن مرحلة ما بعد الانتخابات، وما ستنتجه من ترتيبات سياسية.حين يرفع حزب الله لهجته السياسية ضد معارضيه وهو واثق من فوزه، فإنه بذلك يحدد سقف المرحلة السياسية بعد الانتخابات، وكأن التسوية التي سيبرمها هي تسوية الطرف الواحد، وبين حلفائه ومن ضمنهم، كما فعل قبل الانتخابات. في هذه التسوية، لا مكان للحريري أو المستقبل، ولا للمعارضة المنقسمة أجزاء متفرقة، والتي تدخل الانتخابات تحت شعار مواجهة الحزب.
لكن السؤال الذي تطرحه أوساط سياسية: إلى أي حد يمكن للحزب أن يكون مرتاحاً إلى هذا النوع من التسويات التي ستنتج حكومة اللون الواحد، وهل سيلجأ فعلاً إلى هذا الخيار؟
في مراجعة للمرحلة السابقة، كان الحزب أكثر من يهمهم «غطاء» الحكومة الجامعة. مرة وحيدة خرق هذا السقف مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الأولى التي طواها لاحقاً. لكن، قبلها وبعدها، كانت حكومة الوفاق الوطني مطلبه وغايته، في ترجمة عملية لحكومة تعطيه السقف الشرعي، من دون أن يتحمل عبء أي مواجهة منفرداً.
في حكومة جامعة، كانت الحكومة هي التي تتولى معارك خارجية وداخلية، وهي التي تغطي دور الحزب في مفاصل داخلية حساسة إلى حد تهدئة الخلافات السياسية بين أطراف متناقضة على طاولة مجلس الوزراء وخارجه. ناهيك عن أن الحكومة الجامعة تظلل أي موقف منفرد للحزب يقوم به لا سيما إقليمياً.
انقلبت الأمور مع تظاهرات 17 تشرين، حيث سحب المتظاهرون معهم غطاء الحكومة الجامعة، فخسر الثنائي الشيعي الرئيس الحريري مرة أولى ومن ثم مرة ثانية بعد تكليفه مجدداً. وتأتي الانتخابات اليوم على وقع عناوين ترفعها المعارضة ضد الحزب وضد الحكومات المشتركة. وهو حديث سبق أن قيل في انتخابات عام 2009 ورفضه حزب الله حينها، والحريري لاحقاً بقيام حكومة أكثرية.
بالنسبة إلى الحزب فإن الحكومة الجامعة هي التي يمكنه الوقوف خلفها، كما فعل حتى الآن في أكثر المراحل السياسية حساسية. فكيف الحال اليوم ولبنان مقبل على استحقاقات أولها رئاسة الجمهورية. وقبلها مواجهة الانهيار الاقتصادي وصندوق النقد والتدهور الآتي حتماً في مفاصل أساسية من تركيبة الدولة أمنياً وإدارياً، وانعكاس ذلك على الواقع الحياتي والاجتماعي. فإذا كانت عجلة الحياة متوقفة حالياً بسبب الانتخابات، فإن الجميع سيكونون بعد شهر ونصف شهر أمام استحقاق مواجهة حقيقة الاهتراء.
بعض غلاة المعارضة يجنحون نحو القول إن غاية حزب الله الأساسية هي فوز نيابي ساحق تمهيداً لحكومة لون واحد وانتخابات رئاسة جمهورية لمرشح قوى 8 آذار. لكن ثمة أصواتاً تحاول عقلنة هذا الخيار. فحزب الله، بعد الدوحة والثلث المعطل، كان يتحدث عن ثلث في حكومة جامعة بطبيعة الحال وليس حكومة لون واحد يضمنها كاملة، وتدين له بالولاء. وفكرة الثلث المعطل مرتبطة بحكومة وفاق وطني وليس بحكومة أكثرية. وحساباته هنا مختلفة عن حسابات التيار الذي يريد قضم الحصص النيابية والحكومية والثلث المعطل كما حاول فعله في حكومة ميقاتي الحالية.
كان حزب الله دائماً مع الحكومة الجامعة فكيف الحال اليوم ولبنان مقبل على استحقاقات ومواجهة الانهيار؟


وقبل أشهر قليلة من نهاية العهد، يعرف الحزب أن المواجهة ستكون كبيرة ومباشرة بين خيارين، لكنه مع كل «فائض القوة» الذي يعبر عنه مراراً، لا يمكن استبعاد الحكومة المشتركة، إذا كان قادراً على فرض إيقاعه من خلالها من دون أن يتحمل الأعباء التي سترتد عليه إقليمياً ودولياً مع حكومة اللون الواحد. وحتى لو علت لهجته حالياً ضد قوى أساسية كما سبق أن عارضها منذ عام 2005، فإن تجربة الرئيس نبيه بري في «استدعاء» جميع القوى السياسية إلى انضواء تحت مظلة الحكومة أكثر من مرة، قد تتكرر اليوم. ولا يضير الحزب حالياً، بعد حادثة الطيونة، أن يكرر في صوت عال رفضه للحوار مع القوات أو غيرها، إذا كان لاحقاً سيجلس معها على طاولة واحدة. فما بعد الانتخابات أمر آخر، والاستحقاقات تتطلب بعض الهدوء في التعاطي السياسي مع القوى المعارضة، قبل جلاء مصير الرئاسة والنظام معاً.
السؤال، استطراداً، كيف تتصرف المعارضة التي لا ينبئ مشهد الانقسامات فيها بأنها ستحقق أكثرية، في حال فوز حزب الله وحلفائه واعتماد خيار الحكومة الجامعة. وهل يمكنها في مواجهة استحقاق الدخول في حكومة جديدة، أن تعيد مشهد الانقسامات النيابية الحالية. فيتضاعف تشرذمها من الدخول مشلّعة في الحكومة، فتقدم لحزب الله على طبق من فضة تكريسها مجدداً لدوره فيها، أم تنسحب من الحكومة وتترك الحزب والتيار الوطني يتحملان وحدهما عبء المنحى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتجه أكثر إلى التدهور.