وزّعت وزارة التربية والمركز التربوي وثيقتين: واحدة حول التوجيهات الخاصة بالمناهج، وأخرى حول الإطار الوطني للمناهج. وسأقارب الآن الوثيقة الأولى كمتخصّص في حقل المناهج لخمس سنوات في ستانفورد، إضافة إلى أنني وضعت ثلاثة كتب في هذا الباب، ودرّست المناهج لأكثر من عشرين سنة في كلية التربية، وقيّمت مناهج في دولتين. لذلك أعتبر أن خلفيتي الأكاديمية المتواضعة تؤهّلني لتحليل ما ورد في كلّ وثيقة كي أصل إلى استنتاجات أقدّمها هنا، وأبدأ مع الوثيقة الأولى:إن ما يحصل هو وضع مناهج لا منهاج لأن التعبير الأخير يُستعمل لمادة دراسية واحدة.
وأول ما يفاجئنا أن العمل الجاري هو لـ»إعادة النظر في المضامين الخاصة بالمواد الدراسية» ص7. فهل إن اللجنة بعد عدد كبير من الاجتماعات والنقاشات، وبعد الدراسات الميدانية التي استغرقت سنة تقريباً، وأظهرت نقاطاً لا تُحصى من الضعف، تريد (اللجنة) أن تحافظ على المواد الدراسية التي تشكل المناهج الحالية، وتقوم بإعادة النظر في مضامينها؟ وهل هذا يعني أن دور هذه اللجنة واللجان التي ستؤلّف لاحقاً هو تعديل محتوى 16 مادة أرهقت كاهل التلامذة والمعلمين؟ وهل هناك لجنة تسمى «لجنة خبراء» مقتنعة بصحة مناهج 1997 ونجاحها؟ أو لأنها تخضع لهيمنة مستشار الوزير الذي أشرف على تلك المناهج الفاشلة كما أثبتت عدة دراسات، بدءاً بدراسة الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية (2003)، وحوالي 20 أطروحة دكتوراه قام بها طلاب باحثون لبنانيون في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية وغيرهما، وبيّنت بالدليل القاطع ابتعاد هذه المناهج عن التيارات التربوية الحديثة، وخلوّها من أي ثقافة رقمية تماشي عصر التكنولوجيا، وضعف مخرجاتها. وأخيراً قامت الدكتورة أبورجيلي وأربعة دكاترة آخرين بدراسة هذه المناهج (2021)، وأظهرت ضعفها وفشلها في بنيتها ومحتواها وتطبيقها وتركيزها على الحفظ، ولم تكن مخرجاتها مرضية نسبة إلى المستوى التعليمي الذي أظهره الطلاب اللبنانيون في الاختبارات العالمية حيث حلّوا في المراتب الأخيرة. ولجنة الخبراء لديها هذه الدراسة، لكنها تجاهلتها. وعلى سيرة لجنة الخبراء، هل بإمكان معالي الوزير أن يخبر الرأي العام مَنْ من أعضائها يحمل دكتوراه في حقل المناهج؟ (ربما موظفة اليونسكو فقط التي تقوم بالعمل الرئيسي، وكلّ ما لا توافق عليه هو غير مقبول. لذلك تمّت «تصفية» اللجنة العلمية التي أجرت دراسات ميدانية، وقامت بمعظم العمل الذي تم «تدويره» ليصدر بالشكل الحالي المليء بالأخطاء). وكيف يوكل شؤون المناهج لمستشاره الذي لا يحمل شهادة دكتوراه في المناهج ولا في التربية؟

برامج وليس مناهج
إن ما سمّاه بعضهم «مناهج 97» لم يكن سوى برامج مدرسية لأن من أصدرها اكتفى بكتابة المواد الدراسية الكثيرة، وتوزيع ساعاتها الأسبوعية. بينما المناهج تتضمن عناصر أخرى كاستراتيجيات التدريس، ونظام التقييم لأداء المتعلمين. فإذا كانت «لجنة الخبراء» مبهورة بهذه «المناهج»، فلا ملامة عليها البتة!!! يبدو أن الإبهار يمكن أن يأتي من مصادر أخرى غير النص. لكنّ السؤال يفرض نفسه: إذا كانت المناهج الحالية بحاجة إلى تطوير فقط، وكما ورد أيضاً في وثيقة الإطار الوطني للمناهج، فلا حاجة إلى كل هذه الضجة الإعلامية، إذ بالإمكان تعيين لجان بعدد المواد الدراسية لتقوم بتعديل محتواها في شهرين أو ثلاثة، وبكلفة مالية بسيطة، ويتم توفير الـ37 مليون دولار المرصودة لهذه المهمة.
ويجب التساؤل عن المقصود بتعبير «وضع الإطار القانوني والإداري للتربية»؟؟ ص7. هل أن التربية عندنا تحدث من دون إطار قانوني؟ أو إداري؟ وتحت عنوان «مفهوم المنهاج»، لم يأتِ تعريف للمنهاج، بل على ما يشتمل عليه. وهذا خلط في المفاهيم. ويرد في الصفحة 8 «يكشف المنهاج عن سيرورات التعلم المتسّقة والمزمع تحقيقها مثل القيم التي تشكل أساس التربية والمنهاج». هل القيم هي سيرورات؟ وهل القيم هي التي تشكل أساس التربية والمنهاج فقط؟ ماذا تركتم للمعارف والتكنولوجيا والمجتمع والنظام السياسي والدين والمواطنية كأسس للمناهج؟؟
وورد أيضاً: «المضامين الخاصة بالمواد التي تبيّن خطة التعليم» ص9. كيف تبيّن مضامين أي مادة دراسية خطة التعليم؟ هذا «صفّ كلام» لا ينمّ عن أي معنى تربوي، فكيف يتمّ وضعه في وثيقة هامة كهذه؟ ومن جملة الخلط بين المفاهيم ما ورد ص 9-10، تحت عنوان «سمات المنهاج العالي الجودة». هناك عدة عبارات للشرح، لكنها ليست سمات للمنهاج، بل مخرَجات متوقّعة له، والفرق شاسع بين المفهومين. وتحت عنوان الحاجة إلى تطوير المناهج ص10 وما بعدها، وردت عدة حجج باستثناء السبب الرئيسي وهو فشل المناهج الحالية، والتي بدأتُ العمل على تغييرها عام 2001 مع فريق تربوي، لكنّ الحكومة أقالتني بسبب كتاب التاريخ. لماذا تغاضت لجنة الخبراء عن حقيقة هذه المناهج؟ ربما مسايرة للمستشار، أو لعدم اطّلاعها على الدراسات والأبحاث التي بيّنت ضعف وتخلّف مناهج 97. هذا بالرغم من أن اللجنة تقول إن هناك حاجة إلى منهاج جديد ص16. فهل تدرك اللجنة التناقض الذي تضع نفسها فيه؟

تزوير التاريخ التربوي
وفي صفحة 15، يكمن تزوير جزء من التاريخ التربوي عندما ترد العبارات التالية التي سأثبت كيف أنها منافية للحقيقة: «عدم الالتزام بخطة العمل التي وُضعت لتطبيق المناهج بصورة تامة، والتأخير في تطوير سياسة التقويم المعتمدة في المنهاج الحالي، وغياب الإجراءات القانونيّة والإداريّة التي تدعم سيرورة تطبيق المنهاج في ظلّ التدخّلات السياسيّة». أولاً لم تكن هناك خطة عمل لتطبيق المناهج، وأنا تسلّمت رئاسة المركز في مطلع 1999 ولم أجد أي خطة، بل وجدت ما أسميته برامج مدرسية وليس مناهج كما ذكرت سابقاً، وعملت عليها لسنتين لسدّ النقص فيها. والخطة التي ترد الآن سمعتها من الدكتور أبوعسلي عام 2009 في الجامعة الأميركية عندما كان يقدم عرضاً عن خطة وضعها بعد سنوات من مغادرته موقعه. بينما أنا من وضع نظام التقييم الذي لم يضعه هو حيث أصدر المناهج من دونه. كما أشرفتُ على وضع استراتيجيات تدريس لتُطبق في التدريب. والنقطة الثانية حول «غياب الإجراءات القانونية والإدارية»... من يصدق هذا الكلام؟ كيف كانت تُطبق المناهج في المدارس اللبنانية خارج إطار القانون والإدارة؟ والنقطة الأخيرة هي ملامة السياسيين على عدم تطبيق خطة أبوعسلي التي ظهرت عام 2009. إن السياسيين كانوا أصدقاء أبوعسلي وهاجموا حكومة الحص لأنها أقالته، وعندما تسلّمت رئاسة المركز، لم يتدخلوا في أي شأن تربوي باستثناء إيقاف توزيع كتاب التاريخ الموحّد الذي لم يكن ضمن مناهج 1997 ، من قبل وزير التربية. ومرة واحدة نقلنا درساً عن التكاثر من صف إلى آخر بعد اعتراض جهة سياسية، لكن لم نلغِه. أما الأقاويل عن التدخل السياسي لإفشال مناهج فاشلة منذ ولادتها فهو ذرّ للرماد في العيون، واعتبار أن ذاكرة المجتمع التربوي اللبناني قصيرة، أو أنه مصاب بالغباء في نظر من زوّر هذه الحقائق ووضعها في وثيقة تُقدم للبنانيين وللحكومة. وأتساءل: ما موقف الوزراء من وثيقة تتضمن تزويراً للوقائع التربوية؟ هل سيقومون بإقرارها تحت مبدأ «ماشي الحال»؟
ونقرأ في ص14، «التقييم التكويني باعتباره مكملاً للامتحانات الرسمية»!!! كيف هذا؟ التقييم التكويني يأخذ موقعه يومياً تقريباً وفي غرفة الصف، بينما جميعنا نعرف أن الامتحانات الرسمية تحصل مرة واحدة في نهاية السنة الدراسية.

الأسباب الموجبة؟
وفي الصفحات 15-20، وتحت عنوان الأسباب الموجبة لتطوير المناهج، لم تظهر الأسباب الحقيقية والأساسية لذلك، وهي ضعف مناهج 97 بعناصرها كافة، بل استُبدلت نقاط الضعف بالمبرّرات التالية: تطوير المنهاج من منظور علمي، ومن منظور اجتماعي، ومن منظور سوق العمل والواقع الاقتصادي، ومن منظور الثقافة، ومن منظور التنمية الذاتية والرفاه، ومن منظور بيئي. إن هذه ليست مبرّرات، بل هي أسس لوضع المناهج. فهل من المعقول ألا يتم التمييز من قبل لجنة خبراء بين مفاهيم يتعلمها الطلاب في السنة الجامعية الأولى؟ فكيف يسمح زملاء جامعيون لأنفسهم بتبني هذا الخطأ ويتجنبون السبب الرئيسي في فشل مناهج 97 إرضاءً لمستشار الوزير المهيمن عليهم، والذي يعتبر مناهج 97 مقدّسة، وأهم ما أنتجه الفكر التربوي عالمياً، ولا يمكن وصفها بالضعيفة أبداً! بالرغم من أنها تحاكي ذاكرة التلميذ وليس فكره، كما تحاكي الماضي وليس المستقبل؟ وبالرغم من أنها كلّفت أكثر من خمسين مليون دولار بين عامَي 94 و98.
ثم تقترح اللجنة تحت عنوان «ما الذي سيتطوّر في المنهاج المكتوب»؟ ص23 و24 أموراً عديدة تكاد تكفي لتشكل بنية منهاج جديد مثل: التقانة، وتكنولوجيا المعلومات، والتواصل، والتشفير، والروبوتات، والقضايا الناشئة/ المستعرضة في التربية كالتنمية المستدامة، والعمل من أجل تحقيق السلام العادل {أي سلام هو المقصود؟!} وتفهّم الآخرين، والإدارة البنّاءة للتنوع، والتربية الصحية، والتعرف إلى الشؤون المالية، وريادة الأعمال، والاستشارة، والإرشاد، والدعم النفسي والاجتماعي، وغيرها. السؤال: إذا كنتم ستُدخلون هذه العناصر الحديثة كلها، وهي غير موجودة في مناهج 97، فلماذا تصرون على عملية «تعديل وتطوير» هذه المناهج؟ ألا تجدون تناقضاً بين ما كتبتموه في الصفحات السابقة وبين ما تطرحونه هنا؟
لا توضح الوثيقة الأسباب الحقيقية لتطوير المناهج وهي ضعف مناهج 97


ومن الأخطاء المفاهيمية أيضاً: «سيجري تطوير مهارات المعلمين لتلائم مهارات المتعلمين» ص26. بربّكم هل المطلوب تحسين كفاءة المعلمين ليصلوا إلى مستوى طلابهم؟! هل تمزحون؟
وما تجدر الإشارة إليه من أجل معرفة القارئ ما يجري بالنسبة إلى المناهج هو الطريقة التي تم فيها وضع التوجيهات والإطار الوطني للمناهج. فقد تمّ ملء جدول من المربعات (Template) قدّمتها موظفة اليونسكو التي تنقلها من بلد إلى آخر، فتغير اسمه من زيمبابواي إلى لبنان مثلاً، ويقوم أهل البلد بملء الفراغات كالكلمات المتقاطعة، ثم تقوم هي بالصياغة، ومن ثم يترجم بعض أعضاء اللجنة ما تكتبه لنا. نعم نحن شعب متخلّف في نظر أصحاب القرار، وليست لدينا خبرات وطنية تضع مناهج لأولادنا الذين هم مستقبل وطننا، بل نريد بصمات وأسماء أجنبية وكأننا مستعمرة أفريقية تنتظر توقيع اسم أجنبي على مناهجها لتصبح شرعية. إن المناهج أيها السادة ليست سيارة نستوردها. إن المناهج هي إنتاج من قبل أبناء الوطن لأطفال الوطن ومستقبل الوطن. فكيف نجلب من لا علاقة له بلغتنا وثقافتنا ومشاكلنا وتناقضاتنا وتركيبة مجتمعنا التعددية والطائفية والمذهبية ليضع لنا مناهج؟ ثم نقوم بترجمة أفكاره وتوجهاته بفرح الأطفال وكأننا حقّقنا إنجازاً كبيراً!! ونعين شخصاً مشرفاً على كل هذا العمل وهو لا يحمل شهادة دكتوراه في التربية؟
وقبل أن ترد عليَّ اللجنة وتقول بأنها «مسودة2»، أقول بأن هذا أقصى ما استطاعت إنتاجه، ومعظم النص يقرأه المطّلع في أي كتاب عن المناهج نظراً إلى عمومية المعلومات. والآن أقدم للجنة الخبراء هذه الملاحظات (مجاناً) كي تصحح المفاهيم، وتحذف التزوير والأضاليل التي تبنّتها إكراماً للمستشار، وهي لا تليق بأخلاقيات الأكاديمي.

* أستاذ جامعي متخرّج من جامعة ستانفورد في حقل المناهج، ورئيس سابق للمركز التربوي