في 30 تشرين الأول 2015، اندلع حريق ضخم في ملهى «كوليكتيف» الليلي في العاصمة الرومانية، بوخارست، أثناء حفل موسيقي. حاول الجمهور، وغالبيته من الشباب، الوصول إلى مخارج الطوارئ التي تبيّن أن عدداً منها لا يستوفي المعايير المطلوبة. تسبب الأمر في هستيريا، وازدحام على المخارج، منع التدفق السريع والخروج الآمن، وترك عدداً من الساهرين فريسة لألسنة اللهب. بلغت حصيلة الحريق: 27 قتيلاً و180 مصاباً. لكن المأساة تواصلت بعد نقل المصابين إلى المستشفيات. إذ بدأت أعداد الوفيات بين هؤلاء بالارتفاع، حتى بين من أصيبوا بحروق طفيفة، أو من لم تكن إصاباتهم خطرة. زادت الوفيات باضطراد، ومن دون تفسير، حتى وصل عدد الضحايا إلى 64.



بعد تسريب أحد الأطباء صوراً لمصابين بالحروق، شرع صحافيون من صحيفة Sports Gazette في العمل على تحقيق استقصائي حول سبب ارتفاع عدد الوفيات. توصل التحقيق إلى أن بعض الذين عانوا من حروق طفيفة ماتوا بسبب الالتهابات البكتيرية التي ظهرت في المستشفيات الرومانية. إثر نقل بعض المصابين لتلقي العلاج في الخارج، قال الأطباء الأجانب إن سلالات البكتيريا المقاومة التي وجدت في تقرحات جروح بعض المصابين هو مما يوجد في المناطق التي تعيش حروباً. قادت التحقيقات إلى مزيد من الحقائق المرعبة: استخدام مطهرات مخففة، ومنتجات طبية منتهية الصلاحية، أخطاء طبية ورشاوى وفساد مدراء مستشفيات وشركات أدوية.
بعد 20 عاماً من إدخال إصلاحات على النظام الصحي الأميركي وتطويره زاد عدد ضحايا الأخطاء الطبية عشرة أضعاف


الفيلم الوثائقي Collective" (2019)" للمخرج الروماني ألكسندر ناناو، يلقي الضوء على هذه المأساة، ويعرض الصور والمشاهد والدعاوى والاخطاء الطبية ومشاهد مأخوذة من وسائل الاعلام واجتماعات الصحفيين والمسؤولين. ما حصل في بوخارست تحول إلى حملة وطنية كبيرة ضد السلطة والأطباء والمراكز الصحية والعاملين فيها، وفضيحة هزت رومانيا وأدّت إلى استقالة رئيس الحكومة وكثيرين من العاملين في المجال الطبي. وهذا الوثائقي ليس الأول ولا الأخير الذي يلقي الضوء على الأخطاء الطبية ومسؤولية النظام الصحي في العالم. في ما يلي اثنان من أهم الوثائقيات التي سلّطت الضوء على الأخطاء الطبية، أسبابها وكيفية معالجتها، والقضاء عليها إذا أمكن.

«To Err is Human»
أصدرت «الأكاديمية الوطنية للطب»، عام 1999، تقريراً تاريخياً عن سلامة المرضى، بعنوان "To Err is Human"، يؤكد أن الأخطاء الطبية في الولايات المتحدة وحدها تقتل بين 44 ألف مريض و98 ألفاً كل عام. أحد كتّاب التقرير وأشد المدافعين عنه كان الدكتور جون آيزنبيرغ، القائد الأول لجهود سلامة المرضى والذي كان مديراً لوكالة أبحاث الرعاية الصحية والجودة.




نشرت وسائل الاعلام قصصاً من التقرير تصف عدداً كبيراً جداً من الوفيات في المستشفيات بسبب الأخطاء الطبية. يومها، كان البحث مستمراً لمعرفة على من يقع اللوم وكيفية إصلاح المشكلة. عُقدت جلسات استماع في الكونغرس، واستجابت الوكالات الحكومية وشركات التأمين بسرعة بوضع خطط لتحديث الأنظمة، ووُضعت منظمات الرعاية الصحية والمستشفيات في موقف دفاعي، ما أدى إلى القاء اللوم على نسبة صغيرة من العاملين في القطاع الصحي ممن وُصف سلوكهم بأنه غير مقبول أو متهور أو إجرامي... إلا أن ذلك كله لم يجعل النظام الصحي بحد ذاته آمناً.
بعد عشرين عاماً، عمل المخرج مايك آيزنبيرغ، نجل جون آيزنبيرغ، على وثائقي أطلق عليه اسم التقرير نفسه الذي نشر قبل سنوات. عام 2018، صدر الفيلم الوثائقي "To Err is Human"، وكشف أن ثالث أبرز أسباب الوفيات في الولايات المتحدة هو نظام الرعاية الصحية بحد ذاته. وأوضح أن 1.7 مليون أميركي يتعرضون سنوياً لأخطاء يمكن الوقاية منها أثناء الرعاية الطبية، وتؤدي إلى وفاة نحو 440 ألف شخص سنوياً، أي عشرة أضعاف ما كان عليه الرقم عند نشر التقرير للمرة. الأولى.
يمكن للصندوق الأسود لغرفة العمليات تسجيل كل ما يحدث قبل الجراحة وأثناءها وبعدها ومراقبة غسل اليدين، وعدد مرات فتح أبواب غرفة العمليات

يكشف المخرج أن الأخطاء الطبية «وباء صامت»، ويتبع أولئك الذين يعملون خلف الكواليس لخلق عصر جديد من سلامة المريض. من خلال مقابلات مع مسؤولي الرعاية الصحية، وأطباء، ورحلة عائلة كانت ضحية لأخطاء طبية تعرض لها الأب والأبن، يقدم الفيلم نظرة فريدة حول مستقبل نظام الرعاية الصحية الذي يعيش كفاحاً مستمراً ضد الأخطاء التي يمكن الوقاية منها. يوضح الوثائقي أن مشكلات عدة تساهم في حدوث أخطاء طبية، من إجهاد الطاقم الطبي بسبب طول ساعات العمل، إلى ضعف التواصل بين الموظفين والأطباء والممرضين، إلى ثقافة الرعاية الصحية التي غالباً ما لا تقبل المساءلة عن الأخطاء.
تصف سو شيريدان، في الفيلم، كيف أصيب طفلها الأول، كال، باليرقان عندما كان حديث الولادة. ولكن لأن كثيراً من الأطفال الحديثي الولادة يعانون من قدر صغير من اليرقان، لم يأخذ الأطباء الأمر على محمل الجد، فأخرجوها مع ابنها من المستشفى من دون اجراء الاختبارات المناسبة. تبيّن لاحقاً أنه كانت لدى الطفل مستويات عالية من مركب كيميائي أصفر يسمى البيليروبين، ما ساهم في تلف الدماغ وأدى إلى شلل دماغي. بعد سنوات، أصيب زوجها، بات، بورم في رقبته بيّنت الفحوصات أنه حميد وخضع لعملية لإزالته. لكن، لاحقاً، تبيّن وجود تقرير من المستشفى يؤكّد أن الورم خبيث، إما لم يدرج في سجل المريض الطبي أو لم يره الطبيب... لكن النتيجة أن السرطان انتشر وأودى بحياة الأب.
يصر الوثائقي على أن تحديد سبب استمرار حدوث الأخطاء الطبية أمر بالغ الأهمية لتقليل عددها. فقد وجدت الدراسات إنه يمكن الوقاية من 69% من العدوى المكتسبة في المستشفيات، وأن غسل اليدين يمكن أن يقلل من انتشار العدوى. لكن الموظفين لا يزالون، حتى اليوم، لا يغسلون أيديهم دائماً بين المرضى. ورغم أن توصيل المعلومات حول المرضى أمر بالغ الأهمية، إلا أن بعض المعلومات الأساسية لا تزال غير منقولة، أو يُساء فهمها أثناء تغييرات المناوبة. ويصر الوثائقي على أن المشكلة لا تتعلق بالأشخاص السيئين في الرعاية الصحية، ولكن المشكلة الأساس هي أن هؤلاء يعملون في أنظمة سيئة تحتاج إلى أن تكون أكثر أماناً. ويوضح أن الولايات المتحدة تستثمر عشرات مليارات الدولارات لإيجاد علاجات لأمراض، لكنها بالكاد تستثمر جزءاً يسيراً من ذلك لإيجاد علاج لهذا الوباء القاتل.
ويلفت الوثائقي إلى قوانين وأنظمة جديدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار لتخفيف الأخطاء الطبية، وللحديث عنها بطريقة أكثر شفافية مما سيغير العلاقة الابوية بين الطبيب والمريض.
لكسر الحاجز الذي يخفي الأخطاء الطبية، يجب أن يأخذ الأطباء دروساً حول كيفية توصيل المعلومة للمريض وعائلته. ولمعالجة الأخطاء وسببها والمسؤول عنها داخل غرفة العمليات، يحاول الخبراء تصميم برامج لاكتشاف مصادر الأخطاء التي تهدد الحياة وتقليلها. واحد من هذه البرامج مستوحى من الصندوق الأسود الموجود في كل طائرة. خلال الأعوام الماضية تعاون أطباء مع متخصصين في مجال الكومبيوتر لتطوير صندوق أسود لغرفة العمليات، من خلالها يمكن للمحللين المدربين تسجيل كل حركة وكلمة في غرفة العمليات قبل الجراحة وأثناءها وبعدها. يقوم المحللين والكاميرات بتسجيل ومراقبة غسل اليدين، وعدد مرات فتح أبواب غرفة العمليات، وتفاصيل اجراء الجراحة. كما يمكن للصندوق الأسود التقاط الأخطاء الفنية والجراحية وينبه إلى ثغرات الاتصال بين أعضاء الفريق. فيما تقوم المستشفيات بتدريب الأطباء ليكونوا أكثر شفافية مع مرضاهم عندما يرتكبون أخطاء. ويستخدم بعضها عمليات محاكاة مع ممثلين لمساعدة الأطباء على تعلم كيفية تحمل المسؤولية عن كل ما يفعلونه، حتى عندما يؤدي إلى نتائج سلبية. تساعد قوائم المراجعة الخاصة بالطاقم الطبي، مثل تلك التي يمر بها الطيارون وطاقم الخطوط الجوية قبل كل رحلة، الأطباء في غرف الطوارئ وغرف العمليات وأجنحة المرضى في تقليل عدد الأخطاء الطبية من خلال جعل أنشطة سلامة المرضى أكثر روتينية.

«Bleed Out»
عام 2009، خضعت جودي، والدة ستيڤ بوروز، لجراحة استبدال مفصل الورك. خرجت من العملية مع تلف في الدماغ ومشاكل في الحركة بعد غيبوبة استمرت أسابيع غيرت حياتها وحياة اسرتها. "Bleed Out" للمخرج والممثل الكوميدي ستيڤ بوروز يتبع رحلة استمرت عشر سنوات لمعرفة ما حدث لأمه وعلى من يقع اللوم. وثائقي يغوص عميقاً في قلب نظام الرعاية الصحية في أميركا. ما حدث لجودي معقّد، بدأ عندما فقدت أكثر من نصف الدم في جسدها، ووُضعت بعد الجراحة في وحدة العناية المركزة الالكترونية. وتهدف هذه الوحدة التي تشمل عادة ميكروفونات وكاميرات ڤيديو وأجهزة إنذار، إلى توفير المراقبة على مدار 24 ساعة. ولكن، لم يلاحظ أحد في هذه الوحدة أن جودي كانت في غيبوبة لمدة يوم ونصف يوم على الأقل.
تدور أحداث الفيلم الوثائقي على مدى عشر سنوات، ويسلط الضوء على جهود ستيف لمعرفة الحقيقة حول نظام الرعاية الصحية الأميركية، أثناء محاولته المضي قدماً في دعوى قضائية ضد المراكز الطبية التي كانت مسؤولة عن والدته. طوال مدة الفيلم، يحاور ستيڤ ويطرح الأسئلة على الأطباء ومقدمي الرعاية المعنيين بحالة والدته، وكانت قصصهم تتغير دائماً. ضم الوثائقي، أيضاً، لقطات حقيقية من كاميرات تجسس ومقابلات وشهادات في قاعة المحكمة لمشاركة قصه والدته وإثبات العيوب في نظام الرعاية الصحية الأميركية.
يُظهر الفيلم معاناة ستيڤ مع أكوام الفواتير الطبية التي لا نهاية لها، وعقبات شركة التأمين التي تعود جميعها إلى نقص الشفافية والمساءلة في الطب الحديث. ويقول إن 80٪ إلى 90٪ من حالات سوء الممارسة الطبية إما تم إسقاطها أو عدم نجاحها في المحكمة. حتى قضيته تم اسقاطها بعد ست سنوات من الجراحة الثانية لوالدته رغم الأدلة التي جمعها. طوال رحلته في المستشفيات وغرف المحاكم ومرافق إعادة التأهيل وكليات الطب والعيادات في جميع أنحاء المقاطعة، يقول إن ما كان هدفًا بسيطًا في البداية تحول إلى شيء أكبر بكثير. على مدار السنوات العشر التي وثق فيها بوروز معاناة والدته، سجل العديد من المحادثات (علانية وسرية)، احداها مع الطبيب الذي أجرى الجراحة لوالدته.
أحد أبرز أسباب نجاح الفيلم الوثائقي هو استخدام المخرج لتقنية وكاميرات وحدة العناية المركزية الالكترونية، وهو نظام تستخدم فيه الكاميرات في وحدة العناية المركزة لمراقبة الكاميرا. وعندما أراد ستيڤ التحدث مع الطبيب المسؤول عن رعاية والدته في الوحدة المركزية في ليلة ما، قالوا إنه لا يوجد طبيب ولكن هناك طبيب كاميرا يقدم الرعاية عن بعد! أراد ستيڤ من خلال الوثائقي أن يحكي قصة والدته التي توفت بعد عشر سنوات من الخطأ وعانت الكثير خلال هذه السنوات، لكن فيلمه أصبح فيلم كل المرضى وعائلاتهم ممن مروا بالتجربة نفسها.