نعى الأسير المحرّر من السجون الإسرائيلية أنور ياسين، جميلة ناصر، لأنها والدته أولاً، ولأنها أيضاً "أيقونة عظيمة، اختارت رحيلاً هادئاً وهادفاً كي تكون في يوم الأرض غرسة حبّ لمن أحبّت وناضلت لأجلها". هكذا وكما أرادت، نامت أمس في ثرى الدلافة (قضاء حاصبيا) التي تحرّرت قبل 22 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي بفضل مقاومة ابنها ورفاقه وإخوانه. طوال 17 عاماً مرّت على أم علي (92 عاماً) عندما كان أنور معتقلاً في فلسطين المحتلة، كانت تصلي لكي يمدّ الله بعمرها حتى تحضن أنور وأولاده. يبدو أنها شبعت حتى رحلت لتنام هي. قبيل تحريره بعملية تبادل الأسرى بين حزب الله والعدو الإسرائيلي عام 2004، كتبت له ناصحة: "نم يا أنور وشباع نوم. أنا بدي سهرك ومش رح خليك تنام ومش رح إشبع منك". طوبى لصاحبة لازمة "يا تقبرني" التي تتودّد بها عفوياً إلى كل من حولها، بأنها رحلت بعدما شبعت من الحياة ومن فيها، بخلاف أمهات المفقودين الأسرى والشهداء اللواتي يرحلن يأساً من معرفة الحقيقة.

تاريخ جميلة ناصر المقاوم تصونه صورها (علي حشيشو)

قبل الأعوام السبعة عشر العجاف، لم تكن أم أنور مرتاحة. الاحتلال الإسرائيلي وحرمان القرى الواقعة في الأطراف هجّراها مع عائلتها من مسقط رأسها قليا وبلدة زوجها الدلافة إلى بلدات البقاع الغربي والنبطية وبيروت حتى استقروا في الرميلة. بالتوازي كان أولادها الذين يكبرون أنور قد انخرطوا في المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال قبل، وبعد اعتقال شقيقهم في عملية لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في جبل الشيخ عام 1987. بتحرير الجنوب عام 2000، ارتاحت نصف راحة. وبعد تحرير صغيرها بأربع سنوات، اصطحبته إلى الساحات لمواصلة النضال من أجل تحرير رفيقه سمير القنطار.
"حلّ التعب" في السنوات اللاحقة على القامة التي أنهكها الصمود والتصدي. عادت إلى منزلها وأسرتها لتعوّض ما فاتها كمدبّرة منزل وأمّ وجدة. صارت تتنقّل بين الدلافة ومنازل أولادها بين بيروت والرميلة وصيدا. واستعادت كنيتها الأولى (أم علي) نسبة إلى نجلها الأكبر. لكن في المراجع وأرشيف وسائل الإعلام، بقيت الأيقونة. لها آلاف الصور والتصريحات في الاعتصامات والمؤتمرات أمام الصليب الأحمر الدولي والسراي الحكومي، ومع المسؤولين المحليين والدوليين، رافعة صور أنور ورفاقه المعتقلين. جزء من ذلك الأرشيف، يحتفظ به الأمين العام للجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين في السجون الإسرائيلية محمد صفا. في مكتبه الصغير، يقلب بين الألبومات ويسرد حكاية كل صورة. "عنا شي اليوم ؟". سؤال يومي كانت تفتتح بها صباحها. تتصل بصفا لتسأله إن كان يجهز لتحرك ما لتسبقه إليه. "لوين بدك منروح".
بعد تحرير أنور اصطحبته إلى الساحات للمطالبة بتحرير رفيقه سمير القنطار

أكثر ما كان يحزنها، قلة عدد المشاركين في التحركات. تعاتب بحسرة: "وين الباقين هول أبطال الوطن؟". ولا يزال صدى صراخها حاضراً عندما أزالت القوى الأمنية خيمة التضامن مع المعتقلين في وسط بيروت عام 2001 لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان"حسينا حالنا نحن في الحبس. مش ولادنا".
على جدران مقرّ اللجنة، ثبتت صورة "أم علي" مع الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان عندما قابلته مع أمهات أسرى آخرين في الإسكوا. ربتت على كتفه وقالت له نريد أولادنا فلذات أكبادنا. يستذكر صفا خطابها إلى المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا في الاعتصام المفتوح الذي نفّذه أهالي المعتقلين عقب تحرير الجنوب. "التحرير ناقص والانسحاب الإسرائيلي لم يكتمل طالما أولادنا وأسرانا في معتقلات إسرائيل". الصورة الأخيرة لها في اللجنة، تعلوها الضحكة عندما تصدّرت مؤتمراً صحافياً دعا إليه صفا عشية تحرير أنور.
على جدران البيت المتواضع في الدلافة عند سفوح جبل الشيخ، تاريخ صانته الصور. هنا صورة جورج حاوي الذي علمت منه بأن ابنها قد أُسر جريحاً بعد استشهاد رفاقه في عملية حملت اسم الشهيد جمال ساطي. وهناك صورة للسيد حسن نصرالله الذي قابلته مراراً. وما بينهما صورة غمرتها لأنور للمرة الأولى بعد تحريره في صالة مطار بيروت.
وفاة أم علي أعادتها إلى المشهد. منذ إعلان وفاتها، ازدحمت صفحات التواصل الاجتماعي بصورها، تحية إليها. وبالرغم من ألم المناسبة، لكنها عرّفتها إلى الأجيال التي نشأت عقب التحرير وغاب عنها بأن معظم اللبنانيين شركاء في النصر.