دخل لبنان مرحلة جديدة من الاهتمام الخارجي به. المقاطعة الخليجية في طريقها الى الانتهاء رسمياً بعد اتصالات بقيت بعيدة عن الأضواء بين أطراف في مجلس التعاون الخليجي وجهات لبنانية، بينها حزب الله الذي تحتجّ السعودية على مواقفه لبنانياً وعربياً. وفيما قال مسؤولون في الكويت إنهم نجحوا في كسر «الصمت السعودي» حيال الملف اللبناني، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تفتح الملف من بوابتَي إيران وسوريا. فيما أرسلت قطر موفديها بصمت، وهي تستعد لمزيد من الاتصالات.لكن الحركة العربية لا تكفي في مواجهة القرار الأميركي الأساسي بمحاصرة لبنان لإلزامه بتنازلات لا تتعلق فقط بأمن إسرائيل وملف ترسيم الحدود، بل بتغيير على مستوى السلطة الحاكمة في لبنان يضمن وصول جماعتها الى الحكم بقوة أكبر مما هي عليه اليوم. وعين واشنطن ليست على مجلس نيابي مختلف، بل على مجلس ينتخب رئيساً جديداً لا يكون من حلفاء حزب الله.
التكتّم الكبير على الاتصالات الجارية منذ أكثر من أسبوعين، أثار نقاشاً في بيروت حول أسباب التحرّك المستجد عربياً ودولياً لم ينته الى نتيجة، رغم أن اللبنانيين يكثرون من التحليلات المرتبطة بتطورات العالم، ولا سيما العملية العسكرية الروسية ضد حلفاء أميركا في أوكرانيا وعدم وضوح حصيلة التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي.

ما الجديد؟
حافظت فرنسا طوال الفترة الماضية، على ما يبدو، على خيوط تسمح لها بالتحدث مع كل الأطراف في لبنان والمنطقة. استطلعت باريس الوضع الداخلي في لبنان، والتقديرات حول نتائج الانتخابات النيابية، ما دفعها إلى التوجه إلى حزب الله وسؤاله مباشرة عما إذا كان يريد حصول الانتخابات فعلاً. وقد سمع الفرنسيون بوضوح أن الحزب مستعد للانتخابات، بل متحمس لها، لذا كان السؤال التالي حول استراتيجيته لخوضها، وخصوصاً مع رصد استنفار غير مسبوق للحزب لتنظيم صفوف جميع حلفائه، ونجاحه في ربط ما لا يُربط في هذا السياق. وقد كان حزب الله واضحاً مع الفرنسيين بأنه يستعد لمعركة لا تفقده موقع الشريك الكامل في أي قرار مستقبلاً، وأنه أكثر استعداداً لمنع إسقاط حلفائه. لكن الكلمة المفتاح بالنسبة الى الفرنسيين كانت أن حزب الله لا يريد الاستيلاء على الحكم من خلال الانتخابات، بل هو راغب في تجديد التسوية السياسية ولا يمانع أي جهود تصب في هذا الاتجاه، بما في ذلك عدم رفضه عودة الجهود السعودية.
وفيما كان من بقي في «الميدان» من حلفاء السعودية، من وليد جنبلاط وسمير جعجع الى المتمردين على قرار الرئيس سعد الحريري بالعزوف عن الانتخابات، يدقّون النفير ويرفعون الصوت عالياً مطالبين السعودية والخليج بالعودة الى لبنان، كان الفرنسيون يرصدون خشية هؤلاء ليس من تدهور الوضع الاقتصادي فقط، بل من عدم قدرتهم على حفظ مواقع نفوذهم في الانتخابات النيابية. ولفت الفرنسيون الى أن أصحاب الأصوات المرتفعة يعبّرون عن خوف حقيقي بعدما اكتشفوا أن لعزوف الحريري تأثيراً كبيراً على معظم المعارك الانتخابية، كما هي حال جنبلاط وجعجع اللذين يخشيان عدم حصولهما على الأصوات السنية الكافية لتحصيل مقاعد انتخابية في أكثر من منطقة. وترافق ذلك مع انكشاف القدرات الضئيلة، بل المثيرة للشفقة، للرئيس فؤاد السنيورة في أكثر من منطقة، ومع حال التشظّي التي تصيب القوى التي تنطق باسم الثورة وعدم قدرتها على ضمان اصطفاف يمكّنها من حصد نسبة معقولة من المقاعد النيابية.
توجّه الفرنسيون الى السعودية، وقرروا البحث في ملف صندوق دعم إنساني هدفه تعزيز واقع القوى والمجموعات الحليفة لهم، بعيداً عن الدولة ومؤسساتها. لكن باريس فوجئت بأن الرياض غير مستعدة لخطوات نوعية، وفي الاجتماع الأولي العملي، لاحظ الفرنسيون أن الجانب السعودي لا يريد اقتصار الأمر على الجانب الإنساني. فاتفق الجانبان على آلية تواصل بشأن لبنان، شملت في اجتماعين منفصلين مندوبين سعوديين عن الديوان (نزار العلولا) ووزارة الخارجية (وليد البخاري) والمخابرات (أحد مساعدي رئيسها خالد الحميدان)، وثلاثة ممثلين عن خلية لبنان في الإليزيه ومندوباً عن كل من وزارة الخارجية الفرنسية ورئيس المخابرات الخارجية برنار إيميه.
حصيلة هذه اللقاءات أضيفت الى نتائج لقاءات عقدت على هامش زيارة الوفد السعودي لباريس مع شخصيات لبنانية، من بينها السنيورة. وسمع الفرنسيون ملاحظات سعودية «غير إيجابية» عن بعض هؤلاء. لكنهم لم يحصلوا على ضمانات واضحة تشير الى الوجهة السعودية حيال المرحلة المقبلة، وسط قلق في لبنان من أن تكون الرياض في طريقها الى «تهدئة» في لبنان تمهيداً لتسوية تشمله وتشمل الإقليم. فيما يقول حلفاء الرياض في لبنان إن السعودية ستستمع الى ملاحظاتهم، وتعود عن مقاطعتها الاستحقاق الانتخابي، وإنها تدرس اقتراح جنبلاط وجعجع والسنيورة إطلاق حملة تعبئة في الوسط السني لإنهاء مفاعيل قرار الحريري بالعزوف، فيما توجّه المرشحان عن القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي ملحم رياشي ووائل أبو فاعور الى السعودية لمقابلة العلولا وحميدان.
وفيما بدأت تسريبات حول عودة قريبة للسفير السعودي إلى بيروت ومسعى يقوم به أطراف لبنانيون لدفع المملكة إلى الإهتمام بلبنان، والحديث دور نشط لأبو فاعور في هذا الإتجاه، أكدت مصادر مطلعة أن هذه الأجواء هي نتاج تنسيق بين البخاري الذي يرغب في العودة وعدد من المسؤولين المعروفين بارتباطاتهم به. وقد جرى الإتفاق على بدء حملة داخلية بعنوان أن حزب الله والرئيس ميشال عون سيحكمان في الإنتخابات المقبلة إحكام سيطرتهم على البلد، وإطلاق حمللة «مناشدة» للسعودية لعدم ترك لبنان في قبضة حزب الله. وتصاعدت هذه الحملة خصوصاً بعد ما أكده مسؤولون سعوديون لعدد من اللبنانيين، ومن بينهم السنيورة، بأن المملكة غير معنية بلبنان ولا مهتمة به، ولا تدعم أي طرف في الداخل. ولمح هؤلاء إلى تراجع الحماسة تجاه رئيس القوات سمير جعجع الذي يبدو أنه «يتعهد بأكثر مما هو قادر على فعله».
وكان بيان صدر عن وزارة الخارجية السعودية رحّب بما تضمّنه بيان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من «نقاط إيجابية»، وأكد «تطلّع المملكة إلى أن يعم لبنان الأمن والسلام، وأن يحظى الشعب اللبناني بالاستقرار والأمان في وطنه والنماء والازدهار». جاء ذلك بعدما اكد ميقاتي التزام الحكومة اللبنانية «اتخاذ الإجراءات اللازمة والمطلوبة لتعزيز التعاون مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي»، مشدداً على ضرورة «وقف كل الأنشطة السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية التي تمسّ سيادة المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وأمنها واستقرارها والتي تنطلق من لبنان».