منذ زيارة وزير خارجية الفاتيكان بول غالاغر لبيروت، مطلع شباط الفائت، وكلامه في لقاءات بعيداً عن الإعلام حول حزب الله كجزء أساسي من لبنان واللبنانيين وبضرورة «طمأنته» داخلياً ودولياً، تعاطت القوى المسيحية مع ما نُقل عنه، إما بإنكار تام أو بمحاولات استكشاف خجولة. وعكس هذا التخبّط جهلاً بحقيقة الكواليس الفاتيكانية، وكيف وصل غالاغر إلى هذه الخلاصة، بعدما تنامى تأثير تيارات لبنانية، كنسية ومدنية، في مواقع القرار في الفاتيكان. ومقابل التلهّي بالمقاعد النيابية وتركيب اللوائح واستجرار عروض مالية من دول عربية، كان المسار الذي عبّر عنه غالاغر يأخذ مكانه الطبيعي داخلياً وفي الفاتيكان. وتأتي الزيارة غير التقليدية لرئيس الجمهورية ميشال عون إلى الفاتيكان اليوم، لتضع الواقع المسيحي، الكنسي والسياسي، على مشرحة واقعية.
الواقع الكنسي
الفاتيكان اليوم ليس فاتيكان البابا يوحنا بولس الثاني، حتى في نظرته إلى أوروبا. فموقف البابا من الحرب الروسية - الأوكرانية، المختلف عن موقف البابا البولوني، حمل التباسات جعلته موقعاً لانتقادات إعلامية أوروبية وكنسية، قبل أن يستخدم تعابير حذرة في وصفه الحرب ودعوته إلى السلام. والفاتيكان مجموعة دوائر، وليس سلطة مركزية تختصر القرار بيدها. فكل من يتعاطى الشأن الفاتيكاني يعرف، مثلاً، تأثير رئيس المجمع الشرقي ليوناردو ساندري، وهو ما كان جلياً في زيارة الأعتاب الرسولية للكنيسة المارونية، بناءً على استدعاء من البابا عام 2018، لعدم رضاه عن أدائها، إذ انتهت بلا تأثير يُذكر بفضل تدخل ساندري بدعم من رجل أعمال لبناني.
النقطة الثانية هي أن الكنيسة المارونية لم تعد الطفل المدلَّل لدى الفاتيكان. التاريخ المشترك وعلاقة بكركي التاريخية وولاؤها، كما كل الكنائس التي تتّبع التقويم الغربي، ولاء مطلق. لكن كانت للكنيسة المارونية دوماً خصوصيتها واستقلاليتها وموقع ريادي ومتقدم في عاصمة الكثلكة، دون الكنائس الأخرى. وصودف أن تزامن دور البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، في مرحلة تاريخية، مع حبرية البابا يوحنا بولس الثاني، فكانت بكركي الصوت المتقدم، خصوصاً في ظل قادة كنائس غربية وشرقية كانوا أقرب في نظرتهم إلى الأنظمة المحيطة كسوريا تحديداً، عندما كان صفير معارضاً لها. وقد جاء الإرشاد الرسولي ليعبّر عن أكثر من الفكرة السائدة حول أهمية رسالة لبنان في التعايش الإسلامي - المسيحي، إذ إنه تكامل، من خلال الزيارة البابوية، مع نظرة بكركي إلى دور لبنان والمسيحيين ومواجهة الاحتلالات.
الفاتيكان، بعد تخصيص سينودوس لمسيحيي الشرق وتراجع دور الكنيسة المارونية، بدأ ينظر إلى مسيحيي المنطقة من خارج العين المارونية. وبدأت قيادات الكنائس الشقيقة تلعب دوراً «سياسياً» وكنسياً في تقديم نظرة مختلفة إليه عن واقع لبنان وسوريا والعراق وإيران. وهذا الجو بدأ يتوسّع ويترك تأثيرات مباشرة على دوائر ديبلوماسية فيه، تارة تحت شعار «حلف الأقليات»، وتارة أخرى تحت شعار مكافحة الإرهاب، أو تحت عناوين سياسية ترسم ملامح مستقبلية لدول المنطقة والطوائف المسيحية فيها وعلاقتها بالمكوّنات الشيعية والسُّنية. ورغم أن ما يُعرف تقليدياً بـ «القضية اللبنانية» ورؤية بكركي لا تزال تحشد مؤيدين في الفاتيكان، إلا أن الواقعية تفترض الكلام عن طبقة أساقفة موارنة لا يستهان بها، مناصب وأدواراً، وعن مؤسسات رهبانية من الدرجة الأولى تتماهى مع الطروحات الجديدة، الحزبية والسياسية، إضافة إلى تأثيرها على دوائر معروفة في الفاتيكان.
المفارقة في الإحاطة الجديدة أنها تحمل الكثير من الخفايا. وكلام غالاغر ليس منفرداً، إذ إنه يحمل خلفيات تعبّر عنها الكنائس الشقيقة. وليست صدفة أن يتزامن هذا الجو مع «نقمة» البابا على الكنيسة المارونية ومؤسساتها الاجتماعية والاستشفائية والتربوية - وهي بالنسبة إليه كلها حلقات مترابطة - لأنها لم تقدم نموذجاً صالحاً للعمل الكنسي أو الاجتماعي المرشح للانفجار. علماً أن تقارير لبنانية تُرفع إليه، من داخل الفاتيكان ومن لبنان، ضد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والحلقة المقرّبة منه، وتتناول أداء بعض المطارنة ورهبانيات وتتحدث عن فساد وهدر. ولم تتمكن الكنيسة المارونية، رغم ما يعرفه أساقفة فيها وبعضهم متصلون بالفاتيكان أو بالسفارة البابوية التي باتت تُعد أقرب إلى فكرة بكركي التاريخية، من تغيير النظرة الفاتيكانية الجديدة إليها، ولا من فرض رؤية سياسية مغايرة. فقد زار البابا فرنسيس مصر والإمارات والعراق، متخطّياً الكنيسة المارونية. فيما زار الراعي السعودية، ويزور مصر، ولكن من دون أن تكون لهذه الزيارات فاعلية الاستمرارية والثبات على رؤية موحّدة ودينامية متكاملة. وليس أمراً عابراً أن يقف غالاغر في بكركي ضد طرحها الحياد، بغضّ النظر عن عبثية الطرح والمبرّرات التي قدّمها لرفضه.

الواقع السياسي
حين كانت الأحزاب المسيحية مشتَّتة وكانت زعاماتها منفيّة أو مسجونة، تولّت بكركي قيادة حركة سياسية لم تقتصر على الداخل، وكان صفير الوجه الديني والسياسي للقوى المسيحية، حتى تلك التي كانت ضده، إذ كانت تكفي زيارة له للبيت الأبيض أو الإليزيه حتى يصبح للدور المسيحي حضور في المنتديات الخارجية. في المقابل، كان الرئيس رفيق الحريري يسحب السياسة الخارجية إليه، حتى باتت له كلمة مسموعة في مربط خيل» الموارنة، باريس. ورغم أن الأحزاب المسيحية كانت تمتلك حضوراً فاعلاً خلال الحرب في عواصم القرار، من خلال مكاتب وممثليات، إلا أن المرحلة التي تلت عام 2005، شهدت أفولاً كاملاً على هذا المستوى. وانحسر تباعاً دورها في الإطلالة الخارجية، فلم تتمكن من تسويق فكرة سياسية بعد الحضور الكثيف في مرحلة عام 2005.
تراجع دور الكنيسة المارونية ولم تعد الطفل المدلَّل للفاتيكان


ما حصل في السنوات الأخيرة من تفاعل فكرة «المشرقية» و«حلف الأقليات» وكلام غالاغر أخيراً، فتح أبواباً لفريق مسيحي على حساب آخر. انتعشت آمال مسيحيي 8 آذار على أساس أن الفاتيكان ناخب أساسي في الاستحقاق الرئاسي، وفي تعزيز الفكرة التي عمل عليها التيار الوطني الحر تحديداً. وفي المقابل، افتقد فريق القوى والأحزاب المسيحية المعارضة إلى أي حضور خارجي. فإذا كانت السياسة الخارجية ترسمها الحكومة والعهد الذي يعبّر، بواسطة مدنيين وأساقفة في الفاتيكان وخارجه، عن رؤيته لوضع المسيحيين في لبنان والمنطقة، فإن الحضور المسيحي «المعارض» خارجياً لا يُذكر، من دول المنطقة إلى الغرب الأوروبي والأميركي. كل تحرك هذه القوى انتخابي، ينحصر بحشد الأصوات الاغترابية أو الدعم المالي. وما يُطبخ في دوائر سياسية وكنسية بعيدة عن توجه بكركي لافت، بقدر ما هو لافت غياب القوى المعارضة عن أي مواكبة عملانية. فهل يمكن معالجة هذا التطور الخطير كنسياً برسالة إلى البعثة الديبلوماسية الفاتيكانية وقت كان عون يعدّ حقائبه لزيارة البابا. وكيف يمكن أن يزور غالاغر، مثلاً، قائد الجيش المرشح للانتخابات الرئاسية، فيما القوى والأحزاب المسيحية منشغلة بالتحضير للانتخابات؟
اليوم يلتقي البابا عون. لن تنفي المعارضة الخبر. وفيما الحوار المتشعّب من لبنان إلى المنطقة يجري في الفاتيكان كما فرنسا، ستضع المعارضة رأسها في الرمل، وتنصرف إلى تركيب لوائح الانتخابات.