لطالما فكّرت كيف سيمرّ هذا اليوم، أول عيد أمّ من دونه. أغمضت عينيها، وحلمت بهدية هذا العام. تريد لقاء قصيراً مع ابنها الشهيد يبلسم جراح الشوق، وغمرة تدفئ الصقيع الذي أحدثه غيابه. وإذا تسنّى لها ستطلب حواراً عابراً معه تسأله عن حاله وتخبره أنها ليست بخير من دونه. بعدها، ستسابق الوقت لتحضّر له طعاماً يشتهيه، وتكوي قميصه قبل أن يغادر. فقدت عبير خليل ابنها محمد تامر في مجزرة الطيونة في 15 تشرين الأول الماضي. بملامح هادئة وابتسامة صغيرة، تسهب في الحديث عن علاقتها «الودية والمتينة» بابنها البكر طوال الخمسة والعشرين عاماً، منذ أن حملته في أحشائها إلى أن رفعت نعشه. «كنت صديقته، يخبرني أسراره ونلعب معاً، حتى إنني لم أتردّد يوماً في تشغيل سيارتي لاصطحابه إلى عمله في الجنوب وإرجاعه إلى البيت كي لا يتعب في الفانات». تحافظ على هدوئها خلال حديثها عنه إلى أن تصل إلى «الخميس الأسود»، يوم وفاته. تغصّ وتبلع ريقها، ثم تفرك يديها لتحبس الدموع التي تجمّعت في عينيها. وتقول: «اخترقت سبع رصاصات جسد حبيبي ولم يرحل قبل أن يودعني». وحدها عبير التي نجحت في أن تسابق الموت لتسرق من محمد كلمة «نعم» ردّاً على سؤالها له إن كان يتألم، وحركة من يده تعبيراً على أنه يشعر بوجودها.
تستصعب هذه السيدة الثكلى حياتها التي «صارت باهتة ومن دون طعم أو لون بغياب السند والونيس». تحاول بشتى الطرق أن «تلوّن» جدران الدار الكئيبة بصوره، حتى تحوّل منزلها الصغير إلى معرض يضمّ أكثر من 32 صورة له. ولتخفف وطأة غيابه، أحاطت نفسها بتفاصيله الصغيرة. علّقت شهاداته، بطاقات العمل، ووصيته المكتوبة بخط يده في غرفة الجلوس. ونشرت ثيابه التي تعبق برائحته، محفظته، ساعة اليد والمحبس الملطّخين بدمائه، نظاراته، وحفنة من تراب ضريحه في أرجاء المنزل. وعندما تغادر هذا المعرض، تحمل رائحته في حقيبتها. يرافقها آخر وشاح زيّن رقبته كالأوكسيجين تتنفّسه متى اختنقت شوقاً. ولا تنام إلا بعد مشاهدة المقاطع المصوّرة التي تركها فتأنس بصوته وضحكته. كثيراً ما تشعر بطيفه يرافقها. «يُخيّل إلي أنه يفتح باب المنزل ويدخل أو يناديني كما اعتدت في كل صباح: ماما، وين النيسكافيه؟»
رغم الصلابة التي تُظهرها خلال الحديث عن فقدانها لابنها وفخرها بأنه «لم يمت بثمن بخس بل مات شهيداً مظلوماً»، لا تنكر مشاعر الحزن الحقيقية التي تشاركها مع متابعيها في مواقع التواصل الاجتماعي. لم تكن هذه السيدة من كتّاب الخواطر، لكن خسارة ابنها آلمتها إلى حدّ الكتابة. وصارت كلما اجتاحتها موجة عارمة من الشوق تشرّع قلبها وتفرغ بعضاً مما في داخله على صفحات العالم الافتراضي كما دوّنت قبل نحو أسبوعين: «ستبقى في قلبي النبض الذي يُبقيني على قيد الشوق للقايك يا روح الروح ونبض القلب من نور عينيك. جمعة مباركة ولدي شهيدي».
خسارة محمد التي أخذت طابع الجريمة دفعتها إلى تحويل صفحتها على «تويتر» إلى منبر لتنشر رسالتها: «نحن ندفع أرواحنا ضريبة انتمائنا وولائنا وقولنا كلمة الحق في وجه الباطل». ولعل حضورها القوي على مواقع التواصل الاجتماعي و«تسليط الضوء على إجرامهم» هما السبب وراء فرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات عليها منذ شهرين منعتها من تحويل الأموال بين مؤسستها (مكتب سفريات) وزبائنها عبر «الويسترن يونيون». كما قامت بحظر حسابها على «فايسبوك» و«واتساب». لكن، لم ينجحوا في ثنيها عن مواقفها واستمرّت في عملها من خلال شركات تحويل أموال أخرى قبل أن تزيل الولايات المتحدة العقوبات عنها منذ أيام.
حافظت عبير على العهد الذي قطعته: «لن تبكي أمام أي أحد». انتهى الحديث، ولا تزال تلك اللآلئ تتجمّع في عينيها. نجحت في إظهار صلابتها. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن في داخلها براكين تشتعل.