تحمل وثيقة الاتفاقية طرحاً تجديدياً من شأنه أن يعزز حركة التطور التي تطال واقع المعوقين، إذ تعتمد فلسفة الحقوق في مقاربتها لقضية الإعاقة وتقوم على مجموعة بنود، تتناول كافة الشؤون المتعلقة بتأمين حقوق المعوقين وإزالة كافة أشكال التمييز ضدهم، بما فيه الأهلية القانونية والحق في بناء الأسرة والتعلم والعمل والصحة، إلخ. وهي تتناولها جميعها من خلال خمسين بنداً تشكل نص الاتفاقية. كما تلحظ الاتفاقية ضرورة قيام تعاون دولي لتنفيذها إلى جانب آلية رصد لتأمين التزام الدول بتنفيذ بنودها. وإذا ما عدنا إلى مرحلة ما قبل الاتفاقية فيبدو جلياً أن مفهوم التهميش والعزل هو المفهوم المسيطر على خطاب واستراتيجية العديد من الدول والوكالات والمنظمات بما فيها تلك التي تتعاطى مع قضايا حقوق الإنسان ذات العلاقة بموضوع الإعاقة. يقوم هذا المفهوم على مبدأ التعامل مع الإعاقة على فكرة أن قضية الإعاقة يجب أن تناقش ويتم التفاوض حولها بشكل منفصل عن باقي القضايا المتعلقة بحقوق الانسان. وعلى هذا الأساس، فإن غالبية المنظمات العاملة في حقل حقوق الإنسان بما تلك العاملة في لبنان كانت لا تعتبر نفسها معنية ومسؤولة مباشرة عن انتهاكات حقوق الإنسان للأشخاص المعوقين. مراصد حقوق الإنسان، ومراصد حقوق المرأة، ومراصد حقوق الطفل، وغيرها جميعها منظمات فاعلة في هذا المجال في لبنان ومع ذلك، فإن قضية الإعاقة ما زالت بعيدة عن اهتماماتها. والعوامل الرئيسية التي توجه طريقة تعاطي هذه المنظمات ما قبل التصديق على الاتفاقية الدولية مع قضية الإعاقة عديدة ويمكن تلخيصها بما يلي:
1- ليست الإعاقة مسألة اضطهاد بل قضية عناية طبية وإعادة تأهيل. وعلى هذا الأساس، فإن الأشخاص المعوقين لا يمثلون قضية حقوق لفئة اجتماعية يمكن طرحها والتعامل معها سياسياً، بل يجب أن تكون موضوع اهتمام رعائي من قبل أجهزة الدولة.
2- وبناءً على ما ذكر أعلاه، فإن على الجسم الطبي، والعاملين الاجتماعيين، وعاملي إعادة التأهيل، والإداريين أن يمثلوا مصالح الأشخاص المعوقين وأن يعرفوا ويحددوا حدود القضية.

تاريخ التهميش الطويل
تعود الخلفية المتعلقة بمفهوم التهميش هذه إلى تاريخ تطور ونمو الإعاقة كموضوع وقضية. والحقيقة أن تاريخ الخطابة حول الإعاقة يرجع رسمياً إلى مرحلة تطور العلوم الطبية والنفسية كمرجعية مهيمنة في هذا الحقل. وقبل تلك المرحلة كان الجهل والخرافة العنصران المسيطران على نوعية الخطابة المتعلقة بالإعاقة في أي مجتمع. وقد كان ينظر إلى الأشخاص المعوقين كنذير من الشيطان، أو عقاب من الله. وعلاج الأشخاص المعوقين كان في غالب الأحيان بين أيدي رجال الدين والمؤسسات الدينية. وفي أحسن الأحوال، كان الأشخاص المعوقون يوضعون، في القرنين السادس عشر والسابع عشر في المستشفيات العامة. ذلك المكان الذي يوضع فيه كل من كان يعتبر في نظر المجتمع غير طبيعي.
غيّر تطور العلوم الطبية والنفسية الخطاب حول قضية الإعاقة تغييراً جذرياً. فلم يعد الأشخاص المعوقون يعتبرون نذيراً شيطانياً بل حالة طبية بحاجة إلى العناية والانتباه. وقد أوجدت المؤسسات لهذه الغاية. ومع مرور الوقت تم إيجاد مؤسسات متخصصة لكل فئة من فئات الإعاقة. وتلك المؤسسات أصبحت أشبه بمأوى، المكان الذي تقوم فيه العائلات برفع عبء الإعاقة عن كاهلها وتضعه على كاهل المؤسسة. فأصبح الشخص المعوق عرضةً لقضاء بقية حياته داخل هذه المؤسسات. ومع الوقت أخذ النظام الرعائي يتطور مع تزايد دور الدولة كجهاز مسؤول صحياً عن جميع المواطنين. وقد كان على الأشخاص المعوقين كنماذج طبية، أن يكونوا تحت إشراف ورعاية الدولة في مؤسسات ممولة ومدعومة من قبلها. وقد عمدت السلطات الدينية الرعائية إلى تأسيس نماذج مماثلة لتلك المؤسسات. وهذا النوع من الخطاب سيطر على الجو العام حتى أواخر الستينات في العالم الغربي، وهو ما يزال مستمراً في عدد من دول العالم الثالث، بما في ذلك لبنان.
وفي مطلع السبعينات بدأت بوادر التغيير المتعلق بالتعاطي الحكومي والمجتمعي مع الإعاقة تلوح في أفق هذه القضية. والخطاب الجديد أخذ يعتبر قضية الإعاقة ظاهرة مجتمعية وليست حالة طبية. وعلى أساس هذا التوجه الجديد، لا يوجد أي مجتمع في التاريخ وفي الحياة الواقعية لا يشكل الأشخاص المعوقون جزءاً من سكانه. بناء عليه، فإن القضية ليست مسألة شفاء وإنما هي مسألة دمج وتقبل. والسبب الرئيسي لاستمرار الإعاقة كمشكلة هو أن المجتمع ما زال يرفض الاعتراف بالأشخاص المعوقين كأعضاء كاملي الشراكة في البنية المجتمعية. وعليه، فإذا كان المجتمع قد عانى من بعض ممارسات التمييز من قبل كالتمييز ضد الجنس والعنصرية وغيرها من ممارسات التمييز فإنه يمكن لنا إضافة نوع جديد ألا وهو التمييز ضد الأشخاص المعوقين. إنه لتقليد مجتمعي أن يتم التمييز ضد الأشخاص المعوقين في كافة جوانب حياتهم بما فيه التمييز القانوني، والوظيفي، والتربوي، وفي مجال سهولة التنقل، وغيرها من أنواع التمييز.

دمج لا مجرد رعاية مؤسساتية
وكما ذكرنا أعلاه، فإن المقاربة الجديدة تحدد مصدر المشكلة والمعاناة للأشخاص المعوقين في المجتمع نفسه وليس في الوضع الطبي والعقلي لهؤلاء الأشخاص. وما كانت تحتاجه المجتمعات ليس المزيد من المؤسسات والسيطرة الطبية على حياة المعوقين، بل إطلاق تغييرات جذرية في بنية المجتمع لضمان دمج حقيقي لهم في تركيبة المجتمع. فالخطاب الجديد ينقل المسؤولية عن شؤون الإعاقة من على كاهل الأطباء والمؤسسات إلى عاتق المجتمع بكامله. والخطاب الجديد يقترح بأن الدمج هو التوجه الجديد وليس الرعاية المؤسساتية. فتهميش الأشخاص المعوقين، بالنسبة للتوجه الفكري الجديد، هو ليس نتيجة للأوضاع العقلية والجسدية للشخص المعوق بل نتاج للعراقيل الموجودة في المجتمع بما له علاقة بالتسهيلات الهندسية والموقف الاجتماعي الملائمة لحاجات هؤلاء الأشخاص. لم تعد مسألة الإعاقة مسألة طبية وإنما هي قضية حقوق إنسان بامتياز.
لا شك بأن مستوى النمو والتطور في حقل الإعاقة يختلف بين بلد وآخر، وبين مجتمع وآخر. أما في ما يتعلق بلبنان، فيبدو من الواضح لنا أن العوامل الثلاثة للتعاطي مع الإعاقة والتي ذكرناها أعلاه، ما زالت حية في هذه المجتمعات والدول. إن بعض المناطق الريفية والفقيرة ما زالت تنظر إلى الإعاقة على أنها عمل شيطاني أو روح شريرة الخ. وأخرى ما زالت تؤمن بالنموذج الطبي في ما يتعلق بالإعاقة والحاجة إلى الرعاية المؤسساتية لتوفير عناية متواصلة. ومع ذلك، فلا يوجد أدنى شك بأن مفهوم الدمج وبرامج التأهيل المرتكز على المجتمع تنمو وتتطور وتنتشر بسرعة في لبنان. لكن معظم البرامج التي طورت إلى اليوم هي نتاج مبادرات خاصة أو نتيجة تدخل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية. وفي موازنات ظهور برامج ومشاريع. وبعض الأسباب التي تقف وراء تطور ونمو منظمات الأشخاص المعوقين قد تكون أيضاً نتيجة تدخل ودعم خارجي. ومنظمات الأشخاص المعوقين الغربية ناجحة تماماً في دعمها لتطوير هذا النوع من المنظمات في العالم الثالث ولبنان. وفي الحقيقة، أن هذه المنظمات قد نجحت في سعيها وضغطها لإيجاد وكالات دولية مساهمة لتأمين تمويل في مختلف دول العالم الثالث لهذه الغاية. وبسبب مزيج من التغيير الدولي والضغط المحلي، فإن من دول العالم الثالث بما فيه لبنان أقرت قوانين وتشريعات تدعم فكرة حماية ودمج الأشخاص المعوقين. لكن لسوء الحظ، هناك برامج حكومية مختلفة ما زالت غير متشددة في تطبيق القوانين وتوفير الموارد الكافية لتنفيذ البرامج اللازمة للحد من العوائق التي تقف في طريق دمج الأشخاص المعوقين ضمن مجتمعهم. نحن نعتقد أن مزيجاً من الجهود المبذولة من قبل الأمم المتحدة، والجهات الإقليمية كجامعة الدول العربية، وممثلي المنظمات غير الحكومية للأشخاص المعوقين، يستطيع أن يلعب دوراً إيجابياً في دعم ودفع مفهوم الدمج.

تخبّط عمل مؤسسات الدولة
لكن السؤال الرئيسي الذي يبقى من دون جواب في لبنان هو: ما سياسة الدولة الاجتماعية ومن هي الجهات المعنية بتنفيذ هذه السياسة؟ ما هو ظاهر حتى الآن هو غياب أي استراتيجية وسياسة اجتماعية للدولة تتناول مصلحة الفئات الفقيرة والمهمشة. ولعل أفضل مثال على ذلك ما حدث في موضوع التقديمات المالية للمؤسسات العاملة في حقل الإعاقة في لبنان. لقد شاهدنا في الأسابيع الماضية حركة احتجاج من قبل المؤسسات العاملة في حقل الإعاقة تطالب فيها الدولة بدفع المستحقات المتوجبة لديها عند الدولة. ورغم أن بيان هذه المؤسسات تناول حقوق ذوي الإعاقة إلا أن مطلبها الرئيسي كان زيادة التعرفة التي تدفعها الدولة مقابل خدماتها. وقد شاهدنا تدافع مختلف القوى السياسية في دعم مطالب هذه المؤسسات. هذه المواقف السياسية تعني أن الدولة والطبقة السياسية تدعم سياسات الإيواء والرعاية في التعامل مع حاجات وظروف ذوي الإعاقة.
لم تعد مسألة الإعاقة مسألة طبية وإنما هي قضية حقوق إنسان بامتياز

إلا أن ما فات الطبقة السياسية في بلدنا أن هذه السياسة تخالف بنود الاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقة التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 2006 والتي تدعو إلى دمجهم في مجتمعاتهم وإنهاء السياسات القائمة على الرعاية والإيواء المؤسساتي. إلى جانب ذلك، فإن مجموع الأشخاص الذي تدعم الدولة كلفة إيوائهم لا يتعدى 9000 شخص بكلفة تقارب 80 مليار ليرة سنوياً (قبل الأزمة الاقتصادية) بينما عدد الاشخاص الحاصلين على بطاقة الإعاقة يفوق 100 ألف شخص. بناءً عليه ما هي سياسة الدولة تجاه هؤلاء؟ المرجع الرئيسي في لبنان المعني بقضية الإعاقة هو القانون 220/2000 الذي يدفع باتجاه دمج ذوي الإعاقة في بيئتهم. ولكن بعد 22عاماً على إقرار مجلس النواب لهذا القانون لم يزل هذا القانون بعيداً جداً، عدا عن أن القانون نفسه أصبح بحاجة إلى تعديل خصوصاً بعد صدور الاتفاقية الدولية سنة 2006.
المطلب الرئيسي لجمعيات ذوي الإعاقة في لبنان هو أن تؤمّن الدولة كل السياسات الكفيلة بدمجهم وتأمين التغطية الصحية لهم والدمج التربوي و تأمين فرص العمل. السياسات القائمة على الإيواء تعني عزل الاشخاص ذوي الإعاقة و إيداعهم مدى الحياة في مؤسسات، ما يمنعهم من أن يعيشوا بكرامة وحرية في المجتمع. مقابل سياسات الايواء تطالب جمعيات ذوي الإعاقة باعتماد الدولة لسياسات الحماية الاجتماعية لحمايتهم من العوز وتأمين التغطية الصحية والمعينات الأساسية لكي يستطيعوا العيش بحرية. الدمج التربوي للتلامذة من ذوي الإعاقة وتأمين فرص عمل لهم يخفف كثيراً من كلفة الإيواء على الدولة ويحولهم إلى طاقة منتجة في المجتمع. السياسات القائمة على الإيواء حكم بالسجن المؤبد على ذوي الإعاقة بينما سياسات القائمة على الدمج تأكيد لحقوق الانسان وحق ذوي الإعاقة في العيش بحرية وكرامة في ييئتهم.

السبب الرئيسي لاستمرار الإعاقة كمشكلة هو أن المجتمع ما زال يرفض الاعتراف بالأشخاص المعوقين كأعضاء كاملي الشراكة في البنية المجتمعية

ويبقى للمؤسسات دور في تأمين البنى التحتية المطلوبة للدمج بتأمين الدعم اللوجستي المطلوب ليصبح الدمج ممكناً مثل تأهيل المنازل والبيئة وتأمين الخدمات الصحية والتربوية الموازية والنقل المؤهل وغيرها من الخدمات التي يمكن للمؤسسات تقديمها بالشراكة والدعم من الدولة.
وأخيراً، هناك الكثير من الجهود التي يجب أن تستثمر في سبيل تحويل الإعاقة إلى قضية حقوق إنسانية ذات مكانة عالية على أجندة المنظمات والوكالات المعنية. ولا شك في أن الوعي تجاه هذا الموضوع قد اتسع وارتفعت نسبته بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة وفي كل أنحاء العالم، ومع ذلك، فإن هذا التغيير الإيجابي في الموقف يجب أن يتطابق مع تغيير مماثل في البرامج والخطط والقوانين، بهدف جعل هذا الخطاب الاجتماعي الجديد حول الدمج وحقوق الإنسان، حقيقة راسخة.
وفي النهاية، على الأشخاص المعوقين أن يضمنوا بأنفسهم أن قضيتهم قد باتت تعتبر واحدة من قضايا حقوق الإنسان. لا شك في أن الأمور تبدو جيدة، لكن الأشخاص المعوقين قد يخسرون ما حصلوا عليه إلى اليوم، إذا لم يستمروا في توظيف جهودهم بشكل ذكي وفعال باتجاه أنسنة القضية.

* استاذ جامعي وناشط حقوقي