الاستناد الى إفادات ومعلومات أشخاص متوفين لتجريم حزب الله تحريض دولي ضد نائبين قبيل الانتخابات: شرّي وعمّار
قوى الامن الداخلي سلّمت المحكمة معلومات تحقيق بشأن عملاء «الموساد»
التشديد على ادانة السيد مصطفى بدر الدين


صدر أخيراً الحكم النهائي عن المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين (ما يعرف باسم المحكمة الخاصة بلبنان). وقبل ان تسدل الستارة على مسرح لاهاي، ستعقد جلسة أخيرة يحدد خلالها القضاة العقوبات الغيابية بحق السيدين حسن مرعي وحسين عنيسي. اختصاص المحكمة يقتصر على تحديد المسؤولية الجنائية الفردية كما جاء في نظامها الأساسي، غير ان حكم الاستئناف ركّز بشكل لافت على ادانة حزب الله، في ما بدا استرضاء للدول التي موّلت بشكل طارئ وعاجل نفقات مرحلة الاستئناف لتسديد رواتب القضاة والموظفين بملايين الدولارات فيما تعاني المحاكم في لبنان نقصاً حاداً في الموارد المالية والبشرية. نعرض في ما يأتي أبرز ما استند اليه نص الحكم (المؤلف من 243 صفحة) لنسف الحكم الأساسي الذي صدر في آب 2020 عن غرفة البداية (مؤلف من 2600 صفحة). القضاة ايفانا هردليشكوفا ورالف رياشي ودايفد باراغواناث وعفيف شمس الدين ودانيال نسيريكو حسموا تجريم حزب الله، بعد ان تردّد حكم البداية في الشروع بذلك لئلا ينكشف هدف تأسيس المحكمة. كما تجدر الإشارة الى ان ذكر نص الحكم اسمي نائبين مرشحين للانتخابات النيابية وربطهما بالأشخاص الذين ادانتهم المحكمة يعدّ تدخلاً يضاف الى التدخلات الأجنبية في الانتخابات المحلية.

نجحت المحكمة الخاصة بلبنان، عملياً، في تكريس مبدأ الافلات من العقاب من خلال حكمها النهائي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين. اذ خلصت الى تجريم حزب يحظى بتأييد مئات آلاف اللبنانيين فيما يقتصر اختصاصها القضائي بحسب نظامها (المرفق بقرار مجلس الامن الدولي 1757/2007) على تحديد المسؤولية الجنائية الفردية.
واستندت المحكمة، لإدانة حزب الله، بشكل أساسي الى خلاصة مفادها ان مستخدمي هواتف الشبكة الخضراء التي تزعم انهم ضالعون في اغتيال الحريري هم أنفسهم مستخدمو الشبكة الثانية التي نقل وسام الحسن عن السيد حسن نصر الله انهم كانوا يلاحقون عملاء للاستخبارات الإسرائيلية. وهي لم تجر تحقيقاً في شأن عملاء الموساد الثلاثة الذين اشارت الى ان السيد نصر الله قدم أسماءهم للحسن وسلمتها قوى الامن الى المحققين الدوليين. بل بدا جلياً ان كل ما يهم قضاتها هو تجريم الحزب الذي جرّمه ممولو المحكمة قبل انطلاق عملها.

(موسى غوموس ــ تركيا)


تمويل فوري تتبعه ادانة او حكم مسبق؟
خصّصت دول عدة جزءاً من ميزانيتها لتغطية كلفة عمل المحكمة الخاصة بلبنان منذ تأسيسها بموجب قرار مجلس الامن الدولي رقم 1757 عام 2007. لكن هذه الدول لم تشأ زيادة مساهمتها المالية بعد عجز لبنان عن تسديد 49 في المئة من المساهمات التي ينص نظام المحكمة على وجوب تسديدها. وخفّض بعضها مساهمته عقب صدور حكم غرفة البداية (18 آب 2020) الذي تعرّض لانتقادات كثيرة بسبب تبرئته ثلاثة متهمين زعم انهم أعضاء في حزب الله. علماً ان القرار 1757 يشير بوضوح إلى انه في حال «عدم كفاية مساهمات الحكومة اللبنانية لتحمل النفقات (...) جاز قبول أو استخدام تبرّعات مقدّمة من الدول الأعضاء» لتغطية أي نقص.
في 2 حزيران 2021، أصدرت المحكمة بيان مناشدة جاء فيه أنه «من دون تمويل فوري، لن تتمكن المحكمة من مواصلة عملها بعد تموز 2021». وشدّد البيان على ان إجراءات المحكمة «تبعث رسالة عالمية قوية بأن الإرهاب لن يمرّ من دون عقاب»، وخلص إلى توجيه «نداء عاجل الى المجتمع الدولي لمناشدته الاستمرار في دعمها».
فما الذي جرى وكيف تأمّنت الاموال فجأة لتغطية نفقات غرفة الاستئناف والتئامها لنسف ما جاء في حكم غرفة البداية وتجريم حزب الله بشكل مباشر؟
اللافت أن الدول التي سدّدت الكلفة الأساسية لاستمرار عمل المحكمة، بعد صدور حكم غرفة البداية، كانت قد صنّفت حزب الله قضائياً كتنظيم إرهابي، وهي تقود وتموّل برامج لمواجهته في لبنان وخارجه. ابرز هذه الدول هي الولايات المتحدة الاميركية وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا، والتي لا شك في أن الحكم يرضيها ويؤكد لها ان المصاريف التي تكبّدتها لتسديد رواتب القضاة لم تصرف هدراً بل تستجيب لمصالحها وأجنداتها السياسية في لبنان والمنطقة.

ادلّة غير مثبتة؟
اضطرت المحكمة الخاصة بلبنان، على ما يبدو، للاستناد الى تحليلات تتعلّق بشخصين متوفيين لا يمكن الاستماع الى افادتيهما للتدقيق في صحّة ما نسب اليهما ولا يمكنهما الاعتراض، اذ لم يكلف محام بالدفاع عن حقوقهما ومصالحهما باعتبار ان الاجراءات القضائية لا تشملهما بعد الوفاة. فقد ركّز حكم الاستئناف على اقوال رئيس فرع المعلومات العميد وسام الحسن (اغتيل في 19 تشرين الاول 2012) وعلى اتصالات القيادي في حزب الله السيد مصطفى بدر الدين (اغتيل في 13 أيار 2016). علماً ان المحكمة لم تقدم شاهداً واحداً تعرّف بشكل مباشر على الضالعين باغتيال الرئيس الحريري، وتبين لها ان الشاهد الوحيد الذي تعرّف الى السيد حسين عنيسي لا يحظى بالمصداقية.
«وجدت غرفة الاستئناف ان غرفة البداية ارتكبت أخطاء من خلال اعتبارها أن الدلائل التي قدمها السيد وسام الحسن بشأن ربط حزب الله بالشبكة الخضراء (مجموعة هواتف يزعم ان مستخدميها ضالعون في الجريمة) هي دلائل غير مثبتة» (الصفحة 6، الصفحة 125، الفقرة 404). علماً ان غرفة البداية كانت قد اكدت، بعد اجراء بحث معمّق، ان الدلائل التي قدمها الحسن «لا يمكن الاعتماد عليها وأنها منقولة ولا تشير الى ان الشبكة الخضراء هي نفسها الشبكة الثانية التي تناولها الحسن مع السيد نصرالله» (الصفحة 131، الفقرة 421) خلال اجتماع عقد بينهما بحسب إفادات الحسن في ايار 2005 (الصفحة 133، الفقرة 429). واللافت ان المحكمة قررت اعتبار هذه الافادات صحيحة من دون ان تحدد موعداً دقيقاً لانعقاد الاجتماع.
أما بشأن السيد بدر الدين، فجاء في الحكم ان «غرفة البداية ارتكبت خطأ في الوقائع أتاح اجهاض العدالة من خلال فشلها بتحديد السيد بدرالدين كقائد عسكري خلال 2004 و2005» (الصفحة 6). اذ ان غرفة الاستئناف، خلافاً لحكم غرفة البداية، ومن دون تقديم أي دليل قاطع، حسمت بأن بدر الدين كان يتولى قيادة المجموعة التي زعم انها اغتالت الرئيس الحريري. علماً ان الادعاء لم يعرض على الغرفة وثائق أو اثباتات تشرح هيكلية هذه المجموعة. غير ان حكم الاستئناف، وبحجة ان بدر الدين كان يستخدم احد الهواتف الخضراء عام 2005، حسم ضلوع حزب الله في الجريمة. كما ادانت الغرفة السيد حسن مرعي لأنه كان ايضاً يستخدم هاتفاً زعم انه من هواتف الشبكة الخضراء. أما السيد حسين عنيسي فأدانته المحكمة بحجة ان الهاتف الذي زعم انه استخدمه هو من بين «الهواتف الليلكية» التي كانت على صلة بالشبكة الخضراء.
ولكي تتيح المحكمة الدولية لنفسها الحسم بمسؤولية حزب الله في الجريمة، كان عليها الاعتراف بأنها تستند الى دلائل غير مثبتة استناداً إلى أن «القانون» يسمح لها بذلك. فالقضاة ابتدعوا الآتي حرفياً في نص الحكم: «نحن نسلّم بأنه بحسب القانون، وحدها الخلاصات المطلوبة للإدانة لا يمكن ان تستند فقط الى أدلة غير مثبتة. لذلك نؤيد الادعاء في قوله بأن خلاصة ربط حزب الله بالشبكة الخضراء قد استند الى أدلة غير مثبتة بما في ذلك دلائل قدمها السيد الحسن» (الصفحة 130، الفقرة 420). فحكم الاستئناف لا يدّعي انه استند الى إفادات الحسن غير المثبتة وحدها، بل الى مزاعم الادعاء بأن السادة بدرالدين وعياش ومرعي كانوا يستخدمون هواتف الشبكة الخضراء، وانه قد تكون لحزب الله دوافع لاغتيال الحريري (الصفحة 133، الفقرة 427).

التشديد على ادانة السيد مصطفى بدر الدين
قد يستوقف القارئ تركيز أي حكم قضائي على شخص متوف. وقد تكرر اسم السيد مصطفى بدر الدين بشكل مكثف في نص حكم الاستئناف. اذ ورد اسمه 212 مرة في نص حكم مؤلف من 243 صفحة. علماً ان الحكم نفسه يذكر ان «المحكمة انهت الاجراءات ضد السيد بدرالدين من دون حكم مسبق بحقه» (الصفحة 3).
الدول التي سارعت إلى تقديم التمويل الفوري للمحكمة هي أبرز الدول المدافعة عن جرائم «إسرائيل» أو الساكتة عنها


إضافة الى ما تقدم به مكتب المدعي العام الدولي بشأن السيد بدر الدين، كان لافتاً تدخل الممثل القانوني لضحايا هجوم 14 شباط 2005 بشكل مكثّف لإثبات ضلوعه في الجريمة. اذ ورد عن ممثل الضحايا انه «لا توجد أدلّة يمكن ان تشير الى ان السيد بدر الدين كان يقوم بأي عمل آخر غير الدور الذي لعبه في اغتيال السيد الحريري» (الصفحة 117، الفقرة 387). ولا شك في ان هذا القول ينسف مبدأ قرينة البراءة الذي يفترض ان تلتزم به أي محكمة عادلة تتمتع بالمصداقية.
اضف الى ذلك ان ممثل الضحايا قال لغرفة الاستئناف ان الدليل بأن السيدين حسن مرعي وحسين عنيسي هما عضوان في حزب الله هو ان مسؤولين في الحزب شاركوا في مراسم تشييع شقيق مرعي وان شقيق عنيسي «استشهد». (الصفحة 127، الفقرة 410).
وقال ممثل الضحايا ان «معظمهم مقتنعون بأن الشبكة الخضراء مرتبطة بحزب الله»، وعبّر عن «خيبة أمل بعضهم بعدم وجود خلاصات بشأن المخططين للجريمة» (الصفحة 127، الفقرة 411).



تحريض دولي ضد نائبين قبيل الانتخابات
صدر الحكم النهائي عن المحكمة الخاصة بلبنان قبل أسابيع من موعد الانتخابات النيابية في لبنان، ولا شك في ان جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لا تزال من المواضيع المؤثرة بشكل كبير على الناخبين.
وكان لافتاً اقدام قضاة المحكمة، ومن بينهم القاضيان رالف رياشي وعفيف شمس الدين، على ايراد اسمي النائبين الحاليين (أي انهما بمثابة ممثلين عن الامة جمعاء بحسب القانون اللبناني) امين شري وعلي عمّار في نص الحكم، والحسم بأنهما كانا يتواصلان مع السيد مصطفى بدر الدين (الصفحة 121، الفقرة 390).
وبما ان السيدين امين شري وعلي عمار مرشحان حاليان للانتخابات، يفترض ان يشير تقرير هيئة الاشراف على الانتخابات الى التدخلات الخارجية التي قد تؤثر على الناخبين، ومن بينها حكم الاستئناف الصادر عن محكمة دولية والتحريض الخارجي الذي رافقه في وسائل الاعلام.
فالأمر لا يتعلق بخبر عن المرشّحين شري وعمار ورد في تقرير صحافي، بل ان أساس الموضوع هو تضمّن حكم صادر عن محكمة دولية اسمي المرشحين للانتخابات، ناسباً إليهما علاقات واتصالات بشخص تدّعي المحكمة انه اغتال ابرز شخصية في الدائرة نفسها التي ترشّح أحدهما فيها.


عملاء «الموساد» والحقيقة الضائعة
أشارت غرفة الاستئناف إلى أن «الحسن قال إنه تحدث الى السيد نصرالله في أيلول 2005 عن الشبكة (شبكة هواتف من دون تحديدها)، وأن السيد نصرالله قال له أن الشبكة الثانية كانت تابعة لحزب الله وهي تستخدم لملاحقة لبنانيين يشتبه بتعاملهم مع الموساد. وبحسب الحسن، زوده السيد نصر الله بأسماء وأرقام عملاء الموساد المزعومين ليتسنى له التأكد من أن الشبكة الثانية تلاحق هؤلاء العملاء. وبهذا الشأن نشير إلى أن السيد نصر الله أقرّ بأنه سلم معلومات إلى السيد الحسن في أواخر عام 2005 أو مطلع عام 2006 بأن حزب الله كان يلاحق عميلاً إسرائيلياً. ونشير كذلك الى ان السيد الحسن قال انه سلّم الأسماء والأرقام التي وصلته من السيد نصر الله الى قوى الأمن الداخلي لتدقق في التزامن المكاني لمستخدمي هذه الشبكة. وأفاد لاحقاً، في تشرين الأول 2005، ان قوى الأمن الداخلي أجرت تحليلاً بشأن ثلاثة ارقام هواتف قدمها السيد نصر الله، وسلّمت نتائج هذا التحليل الى المحققين في المحكمة الخاصة بلبنان. يدل التقرير الى ان الهاتف الأخضر 300 والهاتف الأخضر 023 تزامن وجودهما مع الأرقام الثلاثة التي حدّدها السيد نصر الله». (الصفحة 133 الفقرة 429).
القاضيان اللبنانيان في غرفة الاستئناف رالف رياشي (الذي يشغل كذلك منصب نائب رئيس المحكمة) وعفيف شمس الدين، ومعهما القاضية جويس تابت (نائبة المدعي العام الدولي)، الذين يعلمون جيداً بحكم عملهم السابق في المحاكم اللبنانية، بضلوع الموساد في جرائم اغتيال وتصفية ومجازر في لبنان، لم يطلبوا التوسع في التحقيق بقضية عملاء الموساد الثلاثة الذين نُقل أن السيد نصر الله قدم أسماءهم وأرقام هواتفهم.
تجنبت المحكمة الخاصة بلبنان التحقيق في احتمال ضلوع الكيان الإسرائيلي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ولا عجب في ذلك. إذ أن الدول التي سارعت إلى تقديم التمويل الفوري للمحكمة هي أبرز الدول الداعمة لـ«إسرائيل» والمدافعة عنها خلال قيامها بالاعتداءات الإجرامية والمجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم.