هل تقدم مصارف لبنان على خطوة جدية؟ وهل يعلن رياض سلامة صراحة أنه لم يعد صالحاً لمواصلة مهامه، أم ماذا ينتظر؟النقاش الجانبي حول مصير القطاع المصرفي لن يتقدّم لحظة على النقاش الأصلي حول حقوق المودعين. وما تبيّن خلال أكثر من عامين من الجدال أن أركان النظام المصرفي في لبنان، شأنهم شأن الطبقة السياسية، يعيشون حالة إنكار يعتقدون أنها ستجنّبهم الانهيار الكبير. وجلّهم يراهن على حلّ سحري يأتي من خلف البحار أو من خلف ظهر الناس، ويجدّد لهم في إدارة أموال الدولة والناس، كما يجدّد لطبقة سياسية لا يجب أن يتوقع الناس منها أي جديد في أخذ البلاد إلى ما هو أفضل.
ما حصل في اليومين الماضيين لم يكن حدثاً عادياً. لا قرار الحجز على موجودات فرنسبنك لحماية حقّ مودع طالب بأخذ أمواله بعد طول احتجاز كان قراراً عادياً، ولا توقيف رجا سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان وشريكه التجاري، كان قراراً عادياً أيضاً. وفي الحالتين، ثمة تحوّل إلزامي فرضته المكابرة الكارثية التي تسود عقل المشرفين على القطاع المصرفي، من داخل القطاع أو من شركائهم في الحكم، وهو تحوّل ستكون له انعكاساته على عمل القضاء في لبنان أيضاً. أما كل ملاحظة محقّة أو ناقصة يمكن إيرادها على عمل القاضية غادة عون، فلن تكون كافية لتبرير أي خطوة يُقصد منها حماية اللصوص. وفي هذا المجال، يجدر التوقف عند الآتي:
أولاً، إن توقيف رجا سلامة هو توقيف بالإعارة، وهو يعني توقيف رياض سلامة نفسه الذي يعلم ذلك كما يعلمه الجميع، بمن فيهم رجا نفسه، وإن هذه الخطوة ستفتح الباب أمام إعادة طرح السؤال على النيابة العامة التمييزية، من القاضي غسان عويدات الى المحامي العام جان طنوس، حول مصير التحقيقات التي توقفت في ملفات حاكم مصرف لبنان والاشتباه في اختلاسه المال العام والإثراء غير المشروع. وإذا كان القضاء الناشط في أوروبا يرسل مزيداً من المعطيات والمواد الى الجانب اللبناني، فإن ما ينقص الملف، محلياً وخارجياً، يتوقف على خطوة واحدة تتمثل في إلزام المصارف اللبنانية المعنيّة بتزويد القضاء بالتفاصيل الكاملة لحسابات رجا سلامة. وهي خطوة توقفت بقرار سياسي تولاه الرئيس نجيب ميقاتي نيابة عن معظم القوى السياسية في الحكم والمعارضة. وكل تأخّر في تفعيل هذا التحقيق، سيفتح المجال أمام اجتهادات من شأنها ليس إعاقة التحقيق الأوروبي فحسب، بل دعوة الناس إلى تفويض القاضية غادة عون القيام بكل ما يلزم لتحصيل حقوقهم.
ثانياً، إن خضوع مصرف «فرنسبنك» لطلب المودع وتسليمه أمواله التي تقلّ عن ثلاثين ألف دولار، لقاء فك الحجز عن خزائنه، كان فعلاً اضطراياً، وهو سابقة في مصلحة الجمهور، وسيكون على جميع المودعين التقدم بخطوات قضائية تتيح لهم تحصيل حقوقهم بالطريقة إياها، بمعزل عن كل نقاش حول آلية إصدار القرار بالحجز على خزائن المصارف وأموالها. وبالتالي، فإن إصرار المصارف على عدم القيام بخطوات جدية لمعالجة المشكلة، أو عدم القيام بالخطوة المطلوبة منهم في سياق مشروع المعالجة، لن يفيد المصارف ولا كبار المساهمين ولا أصحاب الودائع المشبوهة، ولا أصحاب الأموال من الذين سرقوا أو استفادوا من المال العام.
مصرفيون في حالة ذعر وجمعية المصارف تواصل الإنكار وتسير نحو الهاوية


وإمعاناً في سياسة الإنكار، عقد مجلس إدارة جمعية المصارف أمس جلسة لمناقشة التطوّرات المتصلة بقرارات القاضية عون لجهة حجز موجودات عدد من المصارف ومنع سفر عدد من رؤساء وأعضاء مجالس إداراتها، وكان على جدول الأعمال طرح يتعلق بالرد على شكل إضراب واسع يشلّ ما تبقى من أعمال مصرفية، ولا سيما ما يتعلق برواتب العاملين في القطاعين العام والخاص، وسط ضغط من رئيس الجمعية سليم صفير وآخرين باعتبار الإضراب وسيلة فعالة لتأليب الرأي العام ضد القاضية عون، بما يغني المصارف عن خوض معركة قانونية في وجه القضاء لأنها خاسرة حتماً. لكن المشكلة التي طرأت على جدول الأعمال هذا تتعلق بقرار القاضية عون المتعلقة بتوقيف رجا سلامة. وقال مصرفيون كبار إن «الرعب دبّ» في صفوف المصرفيين على اعتبار أن المسألة صارت على مستوى مختلف.
ثالثاً، إن إحالة رجا سلامة الى قاضي التحقيق كما هو مفترض ستفتح الملف مجدداً، وستكون هناك فرصة للنيابة العامة لإطلاق التحقيق من جديد في ملف شركة «فوري» التي يشتبه في أنها كانت الواجهة لعمليات اختلاس الأموال العامة خلال فترة زمنية طويلة، مكّنت الحاكم من الحصول مباشرة، أو عبر شقيقه رجا أو آخرين، على عمولات تعود الى الدولة اللبنانية، أي الى الخزينة العامة. وسيكون رجا سلامة قريباً جداً أمام جلسة استجواب جديدة من قبل القاضي جان طنوس، الذي يفترض به مواصلة ما بدأه من خطوات للكشف عن كل ملابسات ملف «فوري» ونتائجه المالية.
رابعاً، إن ما يجري يعيد إلى الواجهة النقاش حول العنوان الرئيسي لأزمة القطاع المصرفي، أي ما يتعلق بالسرية المصرفية، وهي السرية التي لا تعني عملياً سوى أمر واحد: إخفاء العمليات المالية المشبوهة لفاسدين أو مستغلّي مناصب عامة، سواء كانوا لبنانيين أو غير لبنانيين. وكل من يخشى رفع السرية المصرفية إنما يخشى على كشف أسرار تهدد مصالحه. وثمة نقاش قانوني جدي بضرورة السعي الى إصدار قوانين ترفع السرية المصرفية بصورة مطلقة، كما هي الحال في كل العالم، علماً بأن الطريقة الأميركية في إدارة مصارف العالم قاطبة لا تقف لحظة واحدة عند السرية المصرفية. ولنا في ما حصل مع سويسرا قبل تسع سنوات دليل على هذه السياسة. يومها ألزم الأميركيون مصارف في سويسرا بدفع غرامات وصلت الى نحو 13 مليار دولار بسبب مخالفات تتعلق بحسابات «يشتبه الأميركيون في أنها متأتّية من عمليات تبييض أموال». ثم أجبر الأميركيون المصارف في سويسرا على فتح عملية تدقيق تفصيلية وشاملة بكل ما لديها من حسابات. وهو أمر يمكن للمصارف اللبنانية ــــ إن كانت تقول بأنها غير متورطة ــــ أن تقوم به من تلقاء نفسها، وأن تبادر الى تكليف فرقها العاطلة من العمل بإطلاق عملية تدقيق شاملة في كل الحسابات الموجودة لديها، ويمكنها ببساطة شديدة معرفة الحسابات المنفوخة بفعل عمليات غير مشروعة، كما يمكنها حصر العاملين في الشأن العام والذين تجمعت لديهم ثروات لا يمكن تبريرها بالدخل الوظيفي.
خامساً، إن على السلطة السياسية، ممثلةً بترويكا الحكم، في الرئاسات الثلاث وبقوى وزعامات سياسية ومرجعيات دينية، المبادرة الى رفع الغطاء فوراً عن حاكم مصرف لبنان، وقبول ما يزعمون أنها «استقالة» جاهزة من قبله، وعدم ربط مصيره بأيّ مفاوضات مع صندوق النقد أو البنك الدولي أو خطة التعافي أو خلافه، لأن سلامة، ببساطة، فقد كل عناصر الثقة التي يجب توافرها بمن يمكنه إعادة النظر في القطاع المصرفي برمّته، أو حتى في تحديد الخسائر العامة أو اقتراح علاج لمشكلة حقوق المودعين.
سادساً، توجب كل الخطوات القانونية أو الإدارية أو السياسات المتّبعة نقدياً ومالياً، حل مجلس إدارة جمعية المصارف في لبنان، وأن تلجأ المصارف التي ترى نفسها في موقع القادر على الاستمرار، ولديها الغيرة على القطاع، الى اختيار قيادة جديدة للقطاع، تعمل وفق منطق الإقرار بالمسؤولية عن هدر أموال الناس، والاستعداد العملاني لوضع خطة تتحمّل من خلالها قسطها من المسؤولية عن هدر أموال المودعين. والأمر هنا لا يجب أن يقتصر على ما ترغب فيه مصارف كثيرة بالتنازل عن موجوداتها في لبنان (أصول وأسهم وودائع) لسداد الديون للناس، بل المبادرة الى إعادة قسم كبير من الأموال التي هُرّبت الى الخارج خلال عقدين من الزمن للمساهمة في تحمل المسؤولية المباشرة عن الأزمة القائمة.
سابعاً، بمقدور الجهات اللبنانية الرسمية والقضائية، وحتى المصرفية، المبادرة من تلقاء نفسها الى إقناع الأميركيين أولاً، وبقية الخارج، بضرورة مغادرة المربع الحالي، حفاظاً على ما تبقى لديها من قدرات وإمكانات وأصول. أما إصرارها على الاستماع وتنفيذ رغبات «السيّد الأميركي» فلن يفيدها في شيء. فلا الوشاية بالناس، ولا البحث عن أموال المنازل سيعيدان إحياء القطاع المصرفي الذي يفقد ثقة أبسط الناس، وستتعزّز أزمة الثقة يوماً بعد يوم، جراء ما تقوم به المصارف من خطوات وإجراءات يومية تمسّ بمصالح الموظفين في الدولة أو الشركات الخاصة أو حتى مصالح العاملين فيها.