لم ينجح التكتّم الذي غلّف مضمون الزيارة الأخيرة لعاموس هوكشتين للبنان، في شباط الماضي، دون إخفاء معالم الانقسام الداخلي حول الطرح الجديد الذي حمله الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع فلسطين المحتلة، وخصوصاً بعدما نقلته لاحقاً السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا مكتوباً إلى الرؤساء الثلاثة.وظهر الانقسام واضحاً بعد اقتراح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تشكيل لجنة متخصصة للبحث في الردّ على المقترح الأميركي، يشارك فيها وزراء من مختلف القوى لضمان إعطاء الموقف اللبناني طابعاً توافقياً. إذ كان لافتاً اعتراض حزب الله من خلال رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد الذي رأى أن «من الأفضل أن يبقى الغاز مدفوناً في البحر إلى أن يتمكن لبنان من منع إسرائيل من المسّ بقطرة ماء واحدة»، وأكّده موقف آخر للنائب حسن فضل الله حول عدم الثقة بالوسطاء الأميركيين، ما فُسّر على أنه ردّ ضمني على ما تسرّب عن طرح هوكشتين الذي يقوم على خط متعرّج يأخذ من لبنان مساحة مائية لا تحتوي حقولاً نفطية. وتأكد الاعتراض مع رفض الحزب المشاركة في اللجنة من خلال وزيره في الحكومة علي حمية، كما كان للرئيس نبيه بري الموقف نفسه لأسباب متعددة.
غياب التوافق الوطني وعدم تشكيل لجنة موسعة، استُعيضَ عنهما باجتماع تقني في بعبدا، وكان الاتجاه فيه، بعد نقاش مفصّل، يميل إلى رفض الطرح، وخصوصاً أن رئيس مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني المقدم عفيف غيث وعضو هيئة قطاع البترول وسام شباط (انضمّا إلى الاجتماع) كان لهما رأي رافض تماماً للعرض، علماً بأن هناك اقتناعاً كبيراً لدى المعنيّين بملف الترسيم أن طرح هوكشتين يهدف إلى تضييع الوقت بدرس اقتراحات غير قابلة للتنفيذ، وتشغل لبنان عن المطالبة الدائمة بالخط 29، وتكرّس تخلّي لبنان عنه مقابل تبنّي الخط 23 وإراحة الجانب الإسرائيلي المقبل على استثمار كامل في حقل «كاريش».


تبدّد جوّ «التفاؤل» الذي أشاعه المُمسكون بملفّ ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة عقِب زيارة آموس هوكشتين الثانية لبيروت. فالمعلومات التي تتسرّب تِباعاً عن العرض المكتوب تشي بأنّه يزيد قليلاً على «خطّ هوف». حصل العدوّ، عبر هوكشتين، على ما يُريد. إذ زايد الممسكون بالملفّ على بعضهم بعضاً بلفظ الخطّ اللبناني 29، وأثخنوا فيه تهميشاً وتهشيماً عبر الطعن في شرعيّته، وتكرار مقولة إنّ الحقّ اللبناني حدوده الخطّ البائس 23، بلا كوب ماءٍ أزودَ منه أو أنقص. عِلماً بأنّ مؤشّرات كثيرة تتآزر على «إسرائيليّة» الخطّ 23، وبالنتيجة الاستماتة اللبنانيّة على الدفاع عن خطّ مجحِف لم نصنعه نحن، بدلاً من فتح باب التحقيق في كيفيّة ولادة ذلك الخطّ. قتل الخطّ اللبناني 29 يعني، عمليّاً، ضوءاً أخضر للعدوّ ببدء «الإنتاج الآمن» من حقل «كاريش» وبدء التنقيب شمال ذلك الحقل.
رسم تقريبي للخطّ «الهجين» المُقترح في عرض هوكشتين المكتوب مبني على تسريبات الصحف. | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الخطّ الهجين
طَرْحُ هوكشتين، بما سُرّب منه، يتبنّى «الخطّ الهجين» الذي يمتدّ على طول الخطّ البائد 23 في البحر الإقليمي اللبناني. يتابع الخطّ الهجين على طول الخطّ 23 إلى ما بعد حقل قانا المحتمل. بعدها ينحرف شمالاً ليلتقي بـ«خطّ هوف» (أو ما يقرب من هوف)، ويتابع على هذا الخطّ غرباً حتى الوصول إلى خطّ الوسط بين لبنان وقبرص. تجدر الإشارة إلى أنّ الخطّ 23 يُعطي كامل التأثير لصخرة «تخليت» في البحر الإقليمي اللبناني (الممتد 12 ميلاً بحريّاً أي ما يقرب من 22 كلم بعيداً من الشاطئ)، وهي المنطقة الاستراتيجيّة التي للبنان سيادة كاملة على مياهها وجوّها والثروات التي يستبطنها بحرها. بصريح العبارة، أهدى طرح هوكشتين كامل هذه المنطقة للعدوّ، وترك له حقل «كاريش» بشطريه، إضافة إلى المساحات الشاسعة الواعدة بين خطّه المُقترح و الخطّ اللبناني 29. وقبل كلّ ذلك وبعده، ترك حقل قانا المُحتمل مشتركاً مع العدوّ، فربع حقل قانا تقريباً يقع جنوب الخطّ البائد 23. باقي عرض هوكشتين يتعلّق بالتنقيب في حقل قانا ولا يعدو كونه «تخريجة» لموضوع التطبيع المتعلّق بالتنقيب والإنتاج من هذا الحقل المحتمل. التخريجة من المرجّح أن تقوم على أساسها شركة «توتال» بإعداد خطّة تطوير وإنتاجٍ متعلّقة بالتجزئة مع المشغّل في الطرف الآخر («إنيرجيان» أو «شيفرون» أو أيّ مشغّل آخر)، يتمّ على أساسها تطوير وإنتاج الحقول على طرفيّ الحدود. هذا الاحتمال ملحوظ أساساً في اتفاقية التنقيب والإنتاج بين الدولة اللبنانية و الكونسورتيوم «توتال» - «إيني» - «نوفاتيك»، ويتطلّب تنسيقاً تقنيّاً مع العدوّ على مستوياتٍ مختلفة، ولو عبر طرف ثالث، للحفاظ على حصّة لبنان في غازه من التآكل. قد لا يكون بُدّ للبنان من إيجاد آليّة في المُستقبل لتطوير الحقول المشتركة والتي قد تُكتشف بمعزل عن الخطّ الذي ترسو عليه المفاوضات. أمّا أن تقبل الدولة اللبنانيّة مُسبقاً بالمشاركة في حقل قانا المُحتمل الموجود كاملاً شمال الخطّ اللبناني 29 فهذا أمر آخر مُستهجن.
رسم تقريبي للخطّ «الهجين»، و يبدو البحر الإقليمي والمنطقة الاقتصاديّة اللبنانيّة الخالصة. | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ماذا في الحسبة والتفاصيل؟
خطّ هوكشتين الهجين يعطي لبنان حوالي 600 كلم2 من المنطقة التي ينازعنا عليها العدوّ من أصل حوالي 2320 كلم2 (بين الخطّ اللبناني 29 و الخطّ 1 المُدّعى من العدوّ)، بالمقارنة مع «خطّ هوف» الذي يعطي لبنان حوالي 550 كلم2 من تلك المنطقة. للتذكير، تبلغ المساحة بين الخطّ البائد 23 و الخطّ 1 المُدّعى من العدوّ حوالي 885 كلم2. انتظر لبنان عشر سنوات منذ هوف ليتلقّى عرضاً من هوكشتين يزيد بقليل على هوف، وهو عرض تلقّى هوكشتين ثمنه سلفاً بالتنازل عن الخطّ اللبناني 29 من الممسكين بالملفّ...
من مساحة تُعادل 1780 كلم2 بين «خطّ هوف» والخطّ اللبناني 29، لم يُعطِ طرح هوكشتين لبنان سوى حوالي 50 كلم2. وتجدر الإشارة إلى أنّ «خطّ هوف» يُعطي كامل التأثير لصخرة «تخليت»، فيما الخطّ اللبناني 29 لا يعطيها أيّ تأثير بلحاظ أثرها غير التناسبي على عمليّة الترسيم، وهو الأمتن تقنيّاً وقانونيّاً، وقد جاء حُكم محكمة العدل الدوليّة في النزاع الكيني - الصومالي، في تشرين الأوّل الفائت، لِيُعطي دعماً إضافيّاً لأحقّيته وقانونيته.
انتظر لبنان عشر سنوات منذ هوف ليتلقّى عرضاً يزيد بقليل على هوف تقاضى هوكشتين ثمنه سلفاً بالتنازل عن الخطّ 29


لم يحفظ عرض هوكشتين حتى بعض ماء الوجه للمسؤولين اللبنانيين المتهافتين على التنازلات. وهو، بصيغته، يصعب ابتلاعه، بالتالي فإن رفضه مرجّح أو عساه يكون كذلك. فقد أخذ هوكشتين ما يريد، ولم يعطِ شيئاً في بادرة متوقّعة تجاه من يسلّم كلّ أوراقه للعدوّ والوسيط الذي ينوب عنه حتّى قبل أن تبدأ المفاوضات الحقيقيّة. مرّة جديدة، في بلدٍ لا يضير المسؤولين فيه تكرار الأخطاء والخطايا، ضيّعنا فرصة الالتفاف حول الحقّ اللبناني وإعادة تصويب مسار ملفّ أنهكه العجز وسوء الإدارة المُريب والزهد بالمصلحة الوطنيّة في مقابل المكاسب الشخصّية. قد تكون الندوب التي أحدثناها بملفّ حقوقنا في مياهنا وثرواتنا الجنوبيّة صعبة المعالجة. ولكن، ونحن حيث نحن، ماذا بيدنا الآن؟
حرص الممسكون بالملفّ على تكرار لازِمة إقفال الباب بوجه المفاوضات إذا تبنّينا، حقيقةً، الخطّ اللبناني 29 كحدّ لمياهنا الإقليميّة ومنطقتنا الاقتصاديّة الخالصة وعدّلنا المرسوم 6433 وأودعنا إحداثيّات الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة. القبول بعرض هوكشتين، إن حصل، هو تنازل فاضح عن الحقوق الوطنيّة، ورفضه ومواجهته بالتالي واجب وطني. ما هو السبيل بعد رفض العرض؟ العدوّ ماضٍ بخططه لبدء الإنتاج من حقل كاريش وباخرة الإنتاج ستتوجّه قريباً من سنغافورة ليصير بعدها ربط آبار الإنتاج الثلاثة بالباخرة بحيث يبدأ الإنتاج من الحقل في الربع الثالث من العام الجاري. وحده تعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة وإنذار الشركات العاملة شمال وحول الخطّ اللبناني 29 بعواقب أفعالها، يعيد تصويب بوصلة ضيّعناها مراراً وتكراراً وما زلنا. لا يزال المأمول مراجعة شاملة من قِبل الممسكين بالملفّ لأدائهم وانخراط القوى الحيّة في عمليّة تصويب المسار. ما عدا ذلك هو صكّ بالتنازل عن الحقوق والثروات الناضبة، بطبيعتها، للعدوّ. ولات حين مناص.

* باحث وأستاذ في الجامعة
الأميركيّة في بيروت