قريباً، ستعود خدمة باصات النقل العام المشترك إلى العمل على طرقات لبنان. إذ يجري حالياً إصلاح 45 باصاً تضررت في انفجار مرفأ بيروت أو بسبب الاستهلاك الزائد وانعدام الصيانة والإهمال الرسمي لهذا القطاع. ويضاف إليها نحو 50 باصاً مستعملاً هبة فرنسية، تتضمن وعداً بـ 100 باص إضافي بعد أشهر. المؤكد أن هذه الباصات لا تمثّل حلّاً لأزمة النقل، لكنها «جزء من خطوة متكاملة تعدّها الوزارة» بحسب وزير النقل والأشغال العامة علي حمية. ولولا أن الخطوة تكسر حاجز الامتناع عن الاستثمار الرسمي في النقل المشترك منذ 2004، يوم قدّمت الحكومة وعداً بشراء 250 باصاً وامتنع كل وزراء النقل والمال المتعاقبين عن تطبيقه، لكانت خطوة لا تذكر.قصّة الباصات الفرنسية ــــ الهبة نوقشت أثناء زيارتَي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت. وبمعزل عن الغطاء السياسي الذي أمّن حصول لبنان عليها، إلا أن الأزمة أكبر من أن تعالج ببضعة باصات. ففي مطلع التسعينيات، كانت مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك تغطّي 27 خطّاً في بيروت الكبرى بنحو 270 باصاً، فيما المطروح اليوم تشغيل نحو 30 باصاً داخل بيروت، ونحو 65 باصاً تربط المناطق بعضها ببعض، أو تربطها مع بيروت. وحتى لو وفت فرنسا بوعدها منح لبنان 100 باص إضافي، فإن تشغيلها بالنسب نفسها بين بيروت والمناطق لا يكفي لحل الأزمة.
كما أن خطّة النقل يجب أن تلحظ مسالك النقل، وطبيعة الانتقال، والربط بين المناطق، والجدوى الاقتصادية والاجتماعية لتسهيل الانتقال بأقلّ كلفة ممكنة، والرقابة وعمليات التنظيم والتكامل بين القطاع العام وسائقي النقل الخاص وخطوط الشاحنات... كل هذا يكاد يكون غير موجود حالياً. إذ لا خطّة متكاملة، إنما المطلوب أن ينفذ أمر ما سريع يخفف الأكلاف الباهظة على السكان الفقراء، أو الذين أفقروا بسبب الانهيار وإدارته. وأمر كهذا لا يمكن أن يحصل إلا على شاكلة الهبة الفرنسية.
إلى ذلك، تبرز معضلة التشغيل. إذ إن لدى مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك حالياً نحو 70 سائقاً، من بين 181 موظّفاً يتوزّع الباقون منهم على الإدارة والصيانة. ومن الـ 70 سائقاً، هناك 20 يحالون إلى التقاعد قريباً. فيما متوسط الأعمار بين هؤلاء لا يقل عن 55 سنة. وبالتالي، من سيتولى تشغيل الباصات؟ كما أن هناك سؤالاً آخر لا يقل أهمية: ما هي تسعيرة استعمال الباص المشترك ضمن بيروت وخارجها؟ وهل ستكون بنفس كلفة القطاع الخاص أم أقلّ؟ وهل ستتعامل الدولة مع النقل المشترك باعتباره ذا جدوى اجتماعية أم جدوى استثمارية، بمعنى أنها تريد استرداد كلفة الاستثمار والتشغيل (حتى لو كانت الباصات عبارة عن هبة، فإن هناك كلفة التشغيل من وقود وصيانة دورية ورواتب وأجور وتقديمات، واستهلاك الباص...)؟ وهل الهبة الفرنسية مشروطة بفتح الباب أمام القطاع الخاص على مصراعيه في قطاع النقل أمام الشركات الكبيرة التي ستبتلع الصغار؟
ثمة كثير من الأسئلة التي لا إجابة واضحة عنها، والسبب أن الاستراتيجية ليست جاهزة بعد. وهي لا تضع الباصات في أي دور نهائي وواضح وحاسم في سياق الخطة الشاملة التي قد تتضمن الاعتماد على القطار أو المترو داخل الأرض أو على سطحها... ودور مرفأ بيروت في استقبال البضائع ونقلها. الاستراتيجية ليست واضحة، لكنها قيد الإعداد كما يشير وزير النقل الذي يرى أن دمج النقل الخاص وتنظيمه في إطار قانوني واضح أمر مهم في خطّته للنقل المشترك. فعندها تتوضح الحاجات والخطوط، «لكن لا حلّ بلا القطاع الخاص، ثم تعزيز أسطول الدولة. في المجمل، ليس لدينا عصا سحرية، إنما نعمل بأقصى سرعة لتأمين النقل للفقراء». ويضيف: «الخطة التي نعمل عليها مع البنك الدولي تتضمن كل البنية التحتية المتعلقة بالنقل المشترك من باصات ومحطات انتظار، وأطوال الشبكات، وعدد الركاب المحتمل في كل قضاء وهي تتضمن أيضاً الإطار القانوني والتنظيمي».