يسعى الرئيس سعد الحريري، يوماً بعد آخر، إلى التظهير علناً بأن قراره تعليق العمل السياسي لم يخرج من عنده. بالنسبة إلى من يعرفه، ويعرف السعودية جيداً، يبدو رئيس الحكومة السابق وكأنه يتعمّد إشهار أنه ليس مسؤولاً عن قراره، تماماً كما حين قدم استقالته من الرياض عام 2017. فهو منذ أن أعلن موقفه، وأعاد تأكيده من خلال صمته العلني في بيروت يوم 14 شباط، تتوالى تسريبات من مقربين منه في بيروت، تضعه في قلب مواجهة شبيهة بما حصل يوم قدم استقالته. يعلم السعوديون جيداً كيف خيضت يومها، من بيروت، معركة «استرجاع» الحريري ومن قادها. لذلك، تتصرّف الرياض منذ أن غادرها على أنه أخطأ في حقها، فتراجعت إلى الخلف تاركة إياه يتخبّط في استكمال مشروع التسوية الرئاسية التي أدت في النهاية إلى اصطدامه بحائط مسدود، بالتوازي مع انهيار شركاته واحدة تلو أخرى.
لم تتخلّ الرياض عن الحريري، وعن عائلة الحريري السياسية اليوم، بل منذ التسوية الرئاسية ثم استقالته. وطوال السنوات التي تلت الاستقالة حتى اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة الأخيرة، هناك في دائرة الحريري من لم يستطع هضم ما حصل. وحده أحد الأشقاء المقربين يعرف ما حصل وكيف رُسم مستقبل الحريري في السياسة وفي مجال أعماله في الإمارات.
ما يجري، منذ أيام، على خط الحريري ودائرته التي سبق أن أدخلته في متاهات لبنانية وإقليمية، بعدما قرر الرئيس فؤاد السنيورة أن عدم المشاركة في الانتخابات لا يصب في مصلحة الطائفة السنية، يشبه تماماً ما حصل حين استنجد الحريري بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليعينه على الرياض. وهذه «الغلطة» يكرّرها الحريري اليوم حين تُشن حملة على السنيورة وشخصيات في المستقبل، هي أبعد ما تكون عن مجرد اختلاف في الرؤية إلى مقاربة الانتخابات ووضع حزب الله والطائفة السنية. ففي ما يقوم به السنيورة محاولة لوضع إطار سياسي لا يختلف مطلقاً مع رؤية عام 2005 التي انضوى الحريري تحت سقفها. والأخير لا يستطيع منطقياً أن يخوّن السنيورة أو يتهمه بما يتهم به حلفاء سابقين في قوى 14 آذار، وإن كان على خطأ في حقهم. ولا يستطيع أن يتفرج على ما يجري داخل البيت السني من قلب البيت الحريري والمقربين منه، من دون أن يكون على دراية تامة به.
يبدو وكأن الحريري يحمّل الرياض مسؤولية وضعها خطوطاً حمراً أمام عودته


ما يرتكبه الحريري من «خطأ» ثان هو أنه يكشف نفسه مجدداً، وخصوصاً الفريق المحيط به وعائلته في لبنان، أمام الرياض. وإذا كانت هي سبب عزوفه، فإن ما يقوم به، يصوّب عليها بطريقة مباشرة محملاً إياها مسؤولية وضعها خطوطاً حمراً أمام عودته، كاشفاً بذلك أن ما طلبته منه لا يروق له مطلقاً. وهو بذلك يغامر مجدداً بوضع الطائفة السنية برمّتها أمام مشكلة بنيوية أساسية تتعلق بمستقبلها ومستقبل الاتجاهات السنية الداخلية، فيذهب إلى خيار «أنا أو لا أحد»، ليضع السعودية في مواجهة إشكالات تثير انقسامات داخلية وتسمح بعودة التفلت السني الأصولي.
أما إذا لم تكن السعودية سبب تعليقه العمل السياسي وكان قراره نابعاً من خيار شخصي، وهذا ليس بالأمر الواقع، فيصبح أداؤه وأداء فريقه السياسي والإعلامي مثار تساؤلات عن الدافع الذي يجعله يثير كل هذه الإرباكات داخل الطائفة، ويستعدي شخصيات فيها لم تكن يوماً إلا على يمينه، حتى يبدو أداؤه، يوماً بعد آخر، أقرب إلى المناكفات الشخصية. علماً أن مؤيدي الحريري احتضنوه بعد قرار تعليق عمله السياسي، وما أثاره من رد فعل عاطفي وشعبي يوازي ما حصل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإن لم يجر التعبير عنه في الشارع. لذا لا يفهم كل غضب الحريري ومن معه اليوم، في اختراع مشكلة جديدة، مع فريق مستقبلي في بيروت، ومع الرياض التي لم تقدم بعد رعايتها الرسمية لأي ممن يتحركون اليوم لتغطية فراغ الحريري. هناك هم سعودي في حماية الشارع السني وهذا الأمر تعرفه مصر ودول عربية لم تسع في لحظة خروج الحريري إلى وضع يدها عليه. وأداء الحريري يساهم في تعطيل جانب من هذه الرعاية التي لم تصل بعد إلى حد اتخاذ قرار على مستوى رفيع باستعادة رعاية الوضع السني واللبناني سياسياً، كما كانت الحال سابقاً. أما بعد الانتخابات فحديث آخر. لكن مشكلة الحريري أنه بدأ يغامر برصيده، عربياً وخارج الرياض، في وضع العثرات أمام كل من ترى فيه السعودية إمكانات لرعاية البيت السني من تأثيرات فريق 8 آذار.