«ما عندي غير حلّ»
بعد انتهاء الحرب الاهلية ووفاة والده، لم يعد باستطاعة محمد مواصلة الدراسة الجامعية، فبدأ العمل في شركة إنترنت خاصة. وبعد سنوات تراكمت خسائر الشركة وأعلنت إفلاسها والاستغناء عن موظفيها. واجه محمد صعوبات كثيرة في إيجاد فرصة عمل جديدة لتسديد ديونه وتأمين حياة كريمة لزوجته وابنه، وكان لا بد من البحث عن أي سبيل لجمع المال. ويوم أبلغته مدرسة ابنه عن عزمها طرده بسبب عدم دفع القسط، قرر محمد تغيير طريقة كسب المال. أصدر عشرات الشيكات إلى تجار مقابل استلام مواد استهلاكية من دون أن يكون في رصيده مال. وبعد مرور سنتين وبينما كان في زقاق البلاط في طريق العودة إلى منزله مع نجله فوجئ بوجود دورية لقوى الأمن أمام شقته. ألقي القبض عليه بسبب توقيعه شيكات مصرفية بدون رصيد. «بعدني لهلق مش ممكن أنسى صورة ابني هو وعم يصرخ ويبكي. كل شي عملته منشان يعيش بكرامة بس بهيدي اللحظة عرفت إني غلطت».

خلال السنة التي قضاها محمد في سجن القبة (طرابلس) كانت زوجته تعتني بابنهما، في حين كانت والدته تزوره من بيروت مع الطعام والثياب. «شفت امي مقهورة، وكانت تجيب أكل للكل بالسجن من ضمنهم القوى الأمنية، ما كان بدها زعّل حدا».
أُخلي سبيل محمد وبدأت حياته «الجديدة» مع معاناة إضافية وتوتر عائلي شديد. أرادت زوجته الطلاق هرباً من التصنيف الاجتماعي لها كـ «زوجة سجين سابق». لكن محمد لم ينهر. «كمّلت واشتغلت ورجعت تجوزت مرة ثانية وصار عندي ولدين منها وبحبهم قد الدني». ولدى سؤاله عن السجن أكد أنه لا يريد تكرار الخطأ نفسه، ثم صمت بعض الوقت وأضاف :«إذا ما قدرت أمّن الاكل والعلم لولادي، ساعتها ما عندي غير حلّ».

(آريس ــ كوبا)


«ضربوني في السجن»
منير من سكان مدينة صور متزوج ولديه أربعة أولاد، واجه مشكلات مادية عديدة بسبب صرفه من عمله. وبدل البحث عن وظيفة بديلة وإيجاد فرصة عمل جديدة، اتخذ الرجل البالغ من العمر إحدى وأربعين سنة طريقاً مختلفاً لتأمين حاجاته وحاجات عائلته، وهي السرقة. فبعد إقدامه على سرقة عدة سيارات ونشل المارة خلال سنتين، ألقت القوى الأمنية القبض عليه وأحالته إلى المحاكمة فحكم بالسجن لمدة سنتين. «سجن رومية كان نار جهنم بالنسبة إلي. ما كان معي مصاري وعيلتي ما كانت قادرة تأمن الأساسيات من أكل وثياب. كنت دائما اطلب من السجناء يساعدوني». روى منير تعرّضه للضرب من السجناء الآخرين. «السنتين كانوا مثل مية سنة، اشتقت لمرتي وولادي وطلبت منها تخبرهم إني مسافر على تركيا. ما كان بدي يعرفو شي عن أسباب دخولي السجن». انتهت السنتان وعاد منير إلى عائلته في صور، «أول فترة كنت منبوذ من المجتمع، وعيلتي كمان لأن وقفوا جنبي إلهم فضل كبير عندي خصوصاً مرتي رغم كل شي ما تركتني». ولدى سؤاله عن تكرار أفعاله قال: »ما بقى ارجع على السجن. صار عندي قلق منه. لو شو ما صار بشتغل أي شي لأمّن حاجات بيتي، بس ما برجع بفوت عالحبس».

«كنّا لبعض»
قال بسّام إنه كان يهرب من مشكلاته العائلية من خلال تعاطيه المخدرات. لم يكن باستطاعته تحمل رؤية والده يضرب والدته وشقيقته يومياً، فكان «الحشيش» طريق هروبه الوحيد حسب قوله. حتى بعد طلاق أهله ومغادرة أبيه المنزل، لم يعد بمقدور ابن الخامسة والعشرين التوقف عن تدخين الحشيش. وفي يوم من الأيام وبينما كان يتعاطى الحشيش في الشارع، ألقي القبض عليه وأحيل إلى القضاء وحكم عليه بالسجن لتعاطي المخدرات وترويجها. «بسجن رومية عملت رفقة، ناس مثلي وعندهم نفس مشاكلي ما حدا بيطلع فينا وبيعرف مشاكلنا، كنّا لبعض». لا يخفي ابن منطقة برج حمود علاقته بالشبكة التي دخلها عبر أصدقائه في السجن من مروجي المخدرات، حتى خرج وعاد إلى ترويج وتعاطي الحشيش، ثم أضاف إليه الهيرويين ثم الكوكايين. ألقي القبض عليه مرة أخرى ليعود إلى السجن للمرة الثانية. وخلال هذه الفترة الإضافية خلف القضبان قد يتعلم بسّام سبلاً للإفلات من الملاحقة في المرة القادمة.

«شو ما بدك مأمّن»
في كل مرة يتكلم عصام عن الفترة التي قضاها في السجن كان الحماس والفرحة تغمرانه. «الفقر والشحار ما خلاني لاقي شغل، وكان الكل يتهرب مني». على مدة عشر سنوات كان لعصام طريق وحيد لتأمين لقمة العيش والتعليم لزوجته وأولاده وهي ترويج المخدرات، أما التعاطي فكانت طريقه لعدم التفكير في هموم الحياة الصعبة. «شو ما بيخطر عبالك سجن ومخفر أنا فتت عليهم، رومية وزحلة والقبة ومخفر الأشرفية، كلهم. السجن صورة مصغرة للدولة اللبنانية، معك واسطة بتعيش ملك وأنا هيك صار معي، بسجن رومية كنت صحبة مع «الشاويش» وشو ما بدك مأمن!».
امي كانت مقهورة، وكانت تأتي بالطعام لكل السجناء في القاووش وللقوى الأمنية ... ما كان بدها تزعّل حدا


يروى عصام أنه كان موقوفاً في مخفر الأشرفية، وأُوقف معه أشخاص «نافذون»، من بينهم أمير سعودي متهم بتجارة المخدرات، وكان يصلهم الطعام من المطاعم. «كانت فترة من العمر»، يبتسم ويضحك وكأنه يروي قصة خرافية ثم يصمت وتبدو ملامح القلق على وجهه.
تغيرت الأمور بعد إخلاء سبيله من السجن، وفتح عصام فرن مناقيش لتسديد نفقات بيته وزوجته وأولاده. «لما صحلي شغل وبلشت طلع مصاري بالحلال ارتحت، وما بقى فكر بهيدك الأيام والبهدلة لأهلي وولادي».
قد تردعهم ظروف السجن الصعبة لكنهم يخرجون منه إلى سجن آخر من دون ضمانات لعدم تكرار الجريمة، أو بالأحرى من دون ضمانات لعدم تكرار ظروف الجريمة ودوافعها وسياقها.
بدا لنا أن هدف كل من قضى عقوبته في السجن هو عدم الرجوع إليه. أما ارتكاب الجريمة فقد يؤدي إلى اقترافها مجدداً، بسبب تعذر تغيير سلوكه الجنائي في السجن. يفترض أن تؤهل السجون نزلاءها لعودتهم إلى المجتمع سالمين آمنين. ولكن في ظل الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الدولة والقضاء في لبنان، ما نفع العقوبة التي لا تردع ولا تصلح ولا تمنع ارتكاب الجريمة مرة أخرى؟




وظيفة العقوبة
يفترض أن تكون عقوبة السجن ردة فعل قانونية تجاه النشاط الجرمي. فبعد ثبات وقوع الجرم في المحكمة وإدانة مرتكب الجريمة تتخذ الإجراء المناسب لمعاقبته. تهدف قوانين العقوبات الجزائية إلى الردع وحماية المجتمع وإعادة التأهيل.
الردع خاص أو عام، فتحقيق الردع الخاص هو لعدم تكرار الفعل الجرمي من قبل الفاعل. أما الردع العام فهو لإعطاء أمثولة للآخرين لردعهم عن ارتكاب الجرائم. ويفترض أن يكون للردع أثر مهم للحد من تكرار الجريمة.
أما هدف حماية المجتمع فيتحقق لدى حجز حرية مرتكبي الجرائم وبالتالي إبعادهم من ضحاياهم الإضافيين في حال تكرار الجرم. ويبدو هدف إعادة التأهيل هو الأهم، فالعقوبة يفترض أن تتطلع إلى تحقيق هذا الهدف سعياً لإعادة اندماج المرتكب في المجتمع بعد إصلاح سلوكه الجنائي. من دون النجاح في تحقيق هذا الهدف لا يعود للعقوبة معنى. فللمجتمع واجب أن يحمي نفسه عن طريق إعادة تأهيل المحكوم عليهم.


إعادة تقسيم السجون؟
يتضمن النظام العقابي في لبنان ثلاثة أنواع من السجون. النوع الأول يتضمن الحبس في أماكن مختلفة (المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة في قسم، المحكوم عليهم بالاعتقال المؤبد والمؤقت في قسم، المحكوم عليهم بالحبس مع التشغيل في قسم، المحكوم عليهم بالحبس البسيط في قسم)، النوع الثاني يتضمن الأحداث، والنوع الثالث يتضمن النساء (مادة 56 من قانون العقوبات اللبناني والمادة 8 و9 من مرسوم تنظيم السجون المرسوم رقم 14310/49).
يبدو هذا التقسيم بسيطاً نظراً لخطورة بعض الجرائم، أو نظراً لسلوك السجناء المختلف. كيف يمكن وضع مرتكبي الجرائم الخطيرة والمكررة في نفس القاووش مع مرتكب جريمة لأول مرة مثلاً؟ ألا يفترض أن يُقسَّم السجن بحسب الجريمة ووضع الجاني والحاجات الأساسية التي تساهم في إصلاح سلوكه الجنائي بعيداً من الظروف الحالية التي تساهم في مضاعفته؟


روايات خلف القضبان | 19 سنة مع حديدةٍ في رأسه


يعاني أحد السجناء الذي أصيب بطلق ناري في رأسه قبل دخول السجن من مشكلات طبية تتعلق بجهاز طبي وُضع في رأسه. هذا الجهاز الذي رُكّب بعد إصابته يسبّب له آلاماً، وهو عاجز عن دفع تكلفة العملية (1200$).