يتفق الجميع على ضرورة انهاء ملف المفقودين والمخفيين قسراً بشكل جدي وموضوعي لضمان حقوق العائلات في الحقيقة والعدالة، الّا ان هناك صعوبة خاصة في التحقيقات التي تتضمن رفات وبقايا بشريّة، فلا يمكن أحياناً الاستعانة بالعائلة أو الأقارب للتعرف على الجثة، ولا يمكن الاعتماد فقط على الطب الشرعي. كما ويستحيل، في كثير من الأحيان، أخذ بصمات الشخص أو عيّنة من الحمض النووي للتمكن على الأقل من حلّ جزء بسيط من هذه الأحجية. لذلك، فإن تحديد مصير المفقودين يعتمد بشكل كبير على توفر الكفاءة العلمية اللازمة لا سيما المتخصصة بالأنثروبولوجيا، بالإضافة الى وجوب عوامل أخرى أساسية كالإرادة السياسية وتوفر الموارد المادية.يأتي دور الأنثروبولوجيا الشرعية (Forensic Anthropology) لاستخلاص أدلة من العظام والرفات البشرية، فيقوم الخبراء بملاحظة وتوثيق كل ما يتعلق بالمكان، ووضعية الرفات، وأية أدلة يمكن أن تساعد في تحديد هوية الضحية أو تقديم تفسير محتمل لوجودها في هذا المكان. وبعد تحليل ودراسة الأدلّة والعيّنات، يقوم الخبراء بدرس فرضيّة احتمال وجود أي خلفية جرميّة. ويبدأ البحث في ملفات الجرائم القديمة وتقارير الأشخاص المفقودين لمحاولة العثور على أي تطابق في مواصفات الأشخاص.


خبراء الأنثروبولوجيا هم أصحاب الاختصاص
في لبنان لا يتمّ الاعتماد على خبراء الأنثروبولوجيا الشرعيّة في التحقيقات التي تتضمن عظام وبقايا بشرية. فيكون الارتكاز عادةً على الطبيب الشرعي وفحص الحمض النووي لتحديد هوية الشّخص وسبب الوفاة. إلّا أنه عند التعامل مع جثة في مرحلة متقدّمة من التحلّل لا تسمح بتشريحها، أو هيكل عظمي، يصبح من الصّعب على الطبّ الشرعي أن يقدّم معطيات كافيّة ودقيقة بخصوص الوفاة أو صفات الفرد البيولوجية.
أما بالنسبة للحمض النووي، فمبدأ الفحص قائم على مقارنة النتائج مع عيّنة من الشخص ذاته أو فرد من عائلته. وفي حال عدم توفر الإثنين، فما نفعه اذاً؟ وماذا لو لم تكن هذه العيّنة اصلاً بشرية؟ يكون الفارق بين عظام الإنسان والحيوان واضح في بعض الأحيان، حتى بالنسبة لغير المتخصّصين. ومع ذلك، يمكن أن تبدو بعضها مشابهة تمامًا لعظام الإنسان. لذلك يضيع التحقيق، في الكثير من الأحيان، بين محاولات غير مجديّة واستنتاجات ناقصة.
نحن بحاجة إلى المزيد من الخبراء في علم العظام والأنثروبولوجيا، فوجودهم ضروري وليس فقط لحلّ الجرائم. فمثلاً بعد انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020)، كانت مساهمتهم أساسيّة لتحديد مكان الضحايا وللتعرف عليهم. لذلك يفترض تشجيع المزيد من الأشخاص على متابعة هذا الإختصاص مع توفير البيئة الأكاديمية المواكبة للتطوّر العلمي في هذا المجال. كما يفترض الاعتماد عليهم كخبراء محلّفين في هكذا نوع من القضايا وليس فقط على الطبيب الشرعي. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من استحداث قسم في المباحث العلميّة وتجهيز المختبرات بالمعدات والتقنيات المتطورة التي تُساعد على معاينة وتحليل الرفات البشرية والعظام.

وما بقي أعظم
تقاوم العظام والأسنان درجات الحرارة المرتفعة وهي من بين آخر الأعضاء التي تتحللّ بعد الموت. بحسب جودة هذه العينات وعددها، يمكن ان تساعد الخبير على إنشاء ملف بيولوجي للمتوفي، الذي يشمل الجنس، العمر، الطول، العرق، طبيعة الوظيفة، وبعض الأمراض. لبناء هذا الملف يعتمد الخبراء على أخذ مقاييس العظام وتحديد مرحلة نموها ومقارنة صفاتها المورفولوجية والفيزيائية مع أخذ عينات لدراسة تكوينها واستخراج الحمض النووي.
يمكن حتى تميّيز أنواع الصدمات والكسور التي تعرّضت لها العظام مع تشكيل فكرة عن طبيعتها، سببها وزمان حصولها.
فهل كان السبب سكين أم مطرقة أو مسدس؟ وهل حصلت منذ زمن أو عند وقت الوفاة أو بعد الوفاة بسبب عوامل خارجية أو بيئية أو بسبب أعمال التنقيب؟
ومن الجدير بالذكر أن هذا الاختصاص لا يُقدم استنتاجات حاسمة، فلا يمكن القول إن "هذه العظمة تعود لرجل أفريقي عمره 18 عاماً طوله 180 سم"، هذه الأمور تحدث في الافلام فقط! أما على أرض الواقع فيكون الاستنتاج تقريبي تقديري هدفه استبعاد بعض الخيارات لتضييق نطاق البحث.

نبش القبور
لا تُعنى الأنثروبولوجيا بحلّ الجرائم فقط بل لديها دور أساسي في تحديد أماكن وهويّة الأفراد في حالات الإبادة والمقابر الجماعيّة والتفجيرات والكوارث. ويعتمد نجاحها بشكل أساسي على إجراء المزيد من الأبحاث في مناطق مختلفة والتعمّق بدراسة الحضارات والأعراق المختلفة. ولكن عملية "نبش القبور" تواجه عالمياً الكثير من التحدّيات الدينيّة والإنسانيّة والاجتماعية والسياسية.
بعد عقودٍ من النضال، صدر القانون 105/2018 والذي يضم عدّة نقاط أبرزها جمع المعلومات حول المفقودين والمخفيين قسراً واتخاذ خطوات عمليّة لتحديد أماكن المقابر الجماعية وهوية الضحايا. لكن تحقيق العدالة، لا يزال يتطلّب الكثير من العمل على المستويات القانونية والاجتماعية واللوجستية والتقنية. لم توضع الخطة الاصلاحية التي ستُعتمد لمعالجة الضرر الناتج عن عملية الحفر والذي قد يطال الممتلكات العامة منها والخاصة كما البنى التحتية. فمن المفروض اذاً تحديد هذه المعايير وتشكيل لجنة متخصصة لمراقبة مدى الالتزام بهذه المعايير، وآلية محاسبة، ووضع خطط لمعالجة الأضرار الناتجة والتعويض عن الخسائر. كما من المفترض توفير الحماية لمواقع المقابر الجماعية والمدافن المُحتملة والعقارات المشتبه بها، لحماية البقايا البشرية.
المفترض توفير الحماية لمواقع المقابر الجماعية والمدافن المحتملة والعقارات المشتبه بها لحماية البقايا البشرية


تتطلّب هذه العمليّات المتشعبة توفر موارد مالية وبشرية وإدارية مهمة بما في ذلك مرافق عمل مجهزة ومناسبة، خاصة لأن نطاق البحث يشمل لبنان كله وعدد المفقودين والمخفيين قسراً يتخطى الآلاف بحسب التقديرات. لذلك يجب وضع الميزانية المناسبة لدعم هذه العملية وتوفير المختبرات والتجهيزات المطلوبة لتحديد اماكن المقابر الجماعية ولمعاينة الرفات البشرية.
ومن المفترض توفير عدد كاف من الخبراء، من مختلف المجالات مثل علماء الآثار والتّنقيب والأدلة الجنائية والأنثروبولوجيا والجيولوجيا، وتدريب الموجود منهم وخصوصاً خبراء الادلة الجنائية والكشف الحسي والضابطة العدلية وقوى الأمن الداخلي على التعامل مع هذا النوع من القضايا. ومن المهم جداً تشجيع الأفراد على دراسة الاختصاصات التي نفتقر لها في لبنان مثل الأنثروبولوجيا وعلم الآثار والطب الشرعي، فلا يمكننا الاعتماد دائماً على الخبرات الاجنبية.



تقنيات البحث عن المدافن


لإخفاء جريمتهم، يعمدُ القتلة أحياناً على دفن ضحاياهم ولأنهم قد لا يمتلكون الوقت للتخطيط للدفن، عادةً ما تكون الحفرة غير عميقة وشكلها غير منتظم وأعماقها غير متساوية، فلا تشبه المقابر العادية.
تمّ إحراز تقدم علميّ كبير في التقنيات والمنهجيات المعتمدة للبحث عن الرفات البشرية والمقابر المخفية. فمن أجل تحديد مواقع مُحتملة لمقابر، يمكن اليوم تحليل المنطقة باستخدام بيانات الأقمار الصناعية والرادارات التي تساعد على اكتشاف المناطق حيث تختلف تركيبة وطبقات التربة. بعد ذلك، يقوم الخبراء في استكشاف المنطقة من خلال البحث عن أدلّة مرئيّة مثل الاختلاف في الغطاء النباتي ولون التربة. ويتمّ تركيز البحث في مواقع معيّنة ثمّ تبدأ عملية الحفر واستخراج البقايا البشرية بطريقة تحفظ كلّ الأدلة. وبحسب المعايير المهنية، من المفترض توثيق وتصوير كل ما يتعلق بالمكان والرّفات ووضعيتها والأساليب المعتمدة لاستخراجها.


الانثروبولوجيا الشرعية


الأنثروبولوجيا الشرعيّة هي تخصص الأنثروبولوجيا الفيزيائية التي تُعنى بدراسة الرّفات البشرية.
يساعد علماء الانثروبولوجيا على التعرف على الأشخاص المتوفين الذين تحلّلت اجسادهم أو أصيبت بحروق شديدة أو تشوهات أو تعرضت للغرق. ويتمّ ذلك من خلال تحديد العمر والجنس والطول والعرق والسّمات الفريدة للمتوفي من رفاتهم. وبعد معاينة التّشوهات الهيكليّة يمكن أن يُحدِّدوا، بشكل مُحتمل، سبب الوفاة والإصابات السابقة للوفاة كالعظام المكسورة أو الإجراءات الطبيّة التي تعرَّضت لها الضحيّة.
يجيب هذا الاختصاص على عدة تساؤلات أساسيّة تفيد التحقيق الجنائي. ويساعد على تحديد موقع الجثث والرّفات وتصنيفها بين بشريّة وحيوانيّة. ويساهم في تحديد السّمات البيولوجية للفرد وتقدير الوقت منذ الوفاة. وبالتعاون مع الأطباء الشرعيين وأطباء الأسنان الشرعيين والمحققين وخبراء الأدلة الجنائية يصبح من الممكن تحديد هوية الفرد والظروف المحيطة بالوفاة.


أحدث تقنيات التحقيق | تحديد الهوية


باستخدام برنامج تصوير ثلاثي الأبعاد يمكن إعادة بناء الوجه من بقايا الهيكل العظمي. لا تتطلّب هذه التقنية الجديدة التعامل مع العظام بشكلٍ يدويّ، كما التقنيات القديمة. بل يمكن بناء الوجه بشكل افتراضيّ بمساعدة الكمبيوتر. مما يُساهم في الحفاظ على العظام الهشّة أو التالفة. الطريقة سريعة وفعّالة، تستخدم الجمجمة والعظام كقالب وتعمل على دمج علم العظام والتكنولوجيا. وتساهم هذه العمليّة في تسهيل عمليات التحقيق وتحديد هوية الشخص من خلال توفير صورة تقريبيّة لملامح الوجه.