في المشهد العام، كل القوى السياسية تتحضّر للانتخابات على مستويات مختلفة: إعلان ترشيحات، وبرامج سياسية وشبك تحالفات. كلٌّ يتعامل مع الاستحقاق على أنه حاصل حتماً، وكلٌّ لا يريد أن يظهر في أدائه ما يمكن أن يترك تشكيكاً بأنه قد يكون وراء تعطيل الانتخابات. لكن، مع ذلك، لا يزال احتمال تأجيل الانتخابات متداولاً كما هي حاله منذ أشهر، لا بل بدأ يصبح أكثر واقعية نتيجة عوامل مستجدّة، وبات في صلب المناقشات حول السيناريوهات المتوقعة والأسباب الموجبة.أولاً، رغم تأكيدات غربية متتالية ودعوات إلى إجراء الانتخابات وعدم تخطي الاستحقاق، والاستعداد لمراقبتها، فإن النبرة الديبلوماسية الغربية لم تعد على الدرجة نفسها من الحسم في الاجتماعات، كما لم تعد الوعود بالتمويل لسحب أي ذريعة لوجيستية بالحماسة نفسها. وهذا لا يعني بأن أحداً من الديبلوماسيين الغربيين تحديداً ألمح في كلامه إلى منحى مختلف عن ضرورة إجراء الانتخابات. لكن هناك من بات يتصرف بواقعية أكثر، نظراً إلى الوقائع العملانية خارج لبنان، من دون استبعاد النيات الداخلية التي يعرفها جيداً الديبلوماسيون المقيمون والزوار.
ثانياً، جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتصرف النظر الغربي عن لبنان. وفي هذه النقطة، يكون لبنان قد فوّت فرصة على نفسه، باستمرار الاهتمام الخارجي به وبملفّاته العالقة. فدول أوروبا، تحديداً التي تعنى بالهموم الانتخابية، إضافة إلى واشنطن، تنشغل عن لبنان في صورة جذرية. ورغم أن بعض المتعاطين في الشؤون الديبلوماسية يصرّون على أن أجندات الدول لا تختلط ببعضها، إلا أن ما يجري في أوكرانيا يتعدى كونه مجرد ملف للمتابعة. إذ إن تداعياته وآثاره التي بدأت بالظهور لن يكون سهلاً استيعابها، حتى قبل الوصول إلى نهاية لها، كالأزمات الاقتصادية واللاجئين عدا عن الجانب العسكري القابل للتطور والاتساع. وهذا الوقت الضائع كان يفترض بلبنان الإفادة منه قبل موعد الاستحقاق لتركيز المساهمات المالية والضغط السياسي لإجراء الانتخابات في موعدها. لكن الأنظار الغربية ستكون هذه السنة منصبّة أكثر على ما يجري في قلب القارة الأوروبية. عدا عن سلسلة أحداث داخلية أوروبية، منها مثلاً الانتخابات الفرنسية التي ستجعل الإدارة الفرنسية منغمسة أكثر في الأسابيع القليلة المقبلة في شؤونها الداخلية. علماً أن هذا الانشغال قد يصب في صالح الأفرقاء الراغبين في التأجيل، لا بل يرون فيه فرصة سانحة.
ثالثاً، عادة لا تهتم الدول العربية بالانتخابات النيابية ولا بالحث على إجرائها. لكن استحقاق هذه السنة يعطي لهذه الدول، ولا سيما دول الخليج، فرصة لمعرفة الاتجاهات الداخلية في لبنان، بعدما رفع بعض حلفائها سقف الرهانات على تحوّل كبير لدى الناخبين. إذ يعول هؤلاء على رفع مستوى المشاركة في الانتخابات، في لبنان والخارج، وفي تحقيق نتائج متقدمة على خصومهم. لكن بقدر ما تتم المراهنة على الاستحقاق، يخشى هؤلاء في المقابل تطورات سلبية في أوروبا بعد أوكرانيا، ما قد ينعكس تراجعاً أمام إيران في مفاوضات الاتفاق النووي. وهذا يعطي لحلفاء إيران مجال ربح ليس في عدد المقاعد بل بفرض تأثيرات مباشرة في مرحلة ما بعد الانتخابات، ما يزيد من خشية خصوم إيران وحلفاء السعودية من أن تصبح الانتخابات مجرد حدث عابر لا يقدم أو يؤخر في انتظار الاستحقاق الرئاسي. وإذا كان الموقف الخليجي، ولا سيما السعودي، لم يتغيّر تجاه بيروت سياسياً، في شكل منفصل تماماً عن أي مساعدة إنسانية، إلا أن أحداً لا يتصور أن هناك عملاً سعودياً مشتركاً مع أي طرف لفرض الانتخابات النيابية.
رابعاً، بقدر ما تصبح العوامل الخارجية أقل ضغطاً، يصبح ملفتاً التصعيد الداخلي لإجراء الانتخابات. يحاول كل طرف إظهار حجم ماكيناته الانتخابية وشعاراته وتحالفاته. لكن، في المقابل، يسعى كل من أطراف الخلاف الداخلي إلى فرض إيقاع إعلامي وسياسي لتحميل الأطراف الأخرى مسؤولية التأجيل. إذ بدأت مبكراً بعض القوى السياسية حملات انتخابية لتفنيد مساعي خصومها للتأجيل، والعكس بالعكس، تماماً كما حملات التسويق الانتخابي بأرقام مبكرة وغير واقعية عن نتائج الانتخابات. يصرّ خصوم حزب الله والتيار الوطني الحر على لفت النظر إلى أن دخول حزب الله إلى الانتخابات بشعارات سياسية عالية ورسائل واضحة بدلالاتها، يساهم أكثر في «نقزتهم» من أن يكون الهدف ليس الحشد الشعبي في بيئة يطمئن إليها الحزب، بل إشاحة النظر عن أسباب التأجيل الحقيقية. فيما التيار الوطني لا يغامر إلى هذا الحد بل يذهب إلى اختراع أساليب للإرجاء، من اقتراع المغتربين إلى الميغاسنتر، بعد فشل الطعن لدى المجلس الدستوري. في وقت يصر هذا الفريق على أن تضعضع خصومه من المستقبل وقوات لبنانية ومستقلين ومجتمع مدني وعدم تمكنهم من تجاوز خلافاتهم، يجعل هؤلاء مجتمعين يعملون على تأجيل الانتخابات، فيما لا يزال بعض المستقلين لا يزالون يرفعون شعار أن الانتخابات لن تغيّر شيئاً في مجلس عام 2022، وأن حصولها أو عدمه سيّان.