أمس، أحدث الرئيس فؤاد السنيورة خضّة سياسية في الوقت الضائع. فما كاد شهر يمرّ على إعلان الرئيس سعد الحريري «تعليقه» العمل السياسي، حتى أعلن السنيورة «تسلّمه» العمل السياسي. بين مجموعة إدارة الأزمة، لم يتفرّد السنيورة في خطابه، وحرص على إظهار أنه ليس وحيداً في مبادرته، وأن خطوته منسّقة مع الرئيس تمام سلام، وأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ليس بعيداً عن أجوائها، وكذلك دار الفتوى. وهو أحدث خرقاً في المشهد السياسي، من خلال نشره مظلة سياسية للفريق الذي انبثق من 14 آذار وتيار المستقبل.معارضو حزب الله توافقوا على وصف كلمته بالمشروع الوطني المتكامل، وبأنه الحدث الذي يؤرخ لمرحلة أساسية من عمر الجمهورية الثانية. فالرجل الذي كان من صلب 14 آذار، وتيار المستقبل، يحمل لواء اتفاق الطائف والميثاقية في العمل الحكومي والنيابي، وحرص قبل الوصول الى ذكرى 14 آذار على تحريك المياه الراكدة ليس في الشارع السني فحسب، بل في أوساط الحلفاء والخصوم. وبعض الخصوم لم يكن يتوقع مبادرة حادّة وسريعة كالتي قام بها رئيس الحكومة الأسبق. بالحد الأدنى، كان التوقع أن يقوم بإدارة لعبة انتخابية لتوحيد الشارع السني، وأنه ليس القائد «الجذاب»، بالمعنى السياسي، لجمع السنّة تحت جناحَيه، وليس صاحب إرث سياسي.

(هيثم الموسوي)

إلا أن السنيورة، العتيق سياسياً، قدّم مبادرة حدّد سقفها بخصومة حزب الله. وأهميتها أنها تأتي بعد التخبط الذي خلقته كلمة الحريري وسقفها الأقل من المتوقع وزيارته لبيروت وما نقل عنه، ومن ثم بيان تيار المستقبل في ذكرى 14 شباط حول الانتخابات النيابية ودعوة المرشحين الى عدم الترشح باسم التيار أو الاستقالة. وقد تمكّن السنيورة بذلك من كسر الجو الضائع الذي دار خلال شهر حول آفاق العمل السياسي للسنّة.
في البدء، كانت مبادرته مع ميقاتي ودار الفتوى بعدم جواز مقاطعة الانتخابات وتأكيد ضرورة المشاركة. وجاء ذلك بعدما تفاقم جوّ «الإحباط السنّي» الذي ذكّر بمقاطعة المسيحيين للانتخابات عام 1992. وتدريجاً، بدا أن الرئيس سعد الحريري ودوائر مقرّبة منه لم تهضم محاولة بعض الشخصيات النافذة في المستقبل وتمتلك حيثيات نيابية وازنة التحرك ضمن مشروع انتخابي لمنع تفلّت الشارع السني. وهذا الخطاب، على حد ما تقول أوساط سياسية، أثار امتعاضاً لدى الحريري المعتكف. فهو كان يريد، بتأثير من حلقة سبق أن ورّطته في مشاريع غير مثمرة، إظهار لدى من يعنيهم الأمر، ولا سيما الرياض، أن خروجه من الساحة يعني دخول قوى متطرفة الى الواقع السني. وهذا ليس في مصلحة الرياض أو أي دولة عربية تسعى حالياً الى تقديم نماذج معتدلة.
السنيورة كان في مقلب آخر. بالنسبة إليه، الأهم في المرحلة الحرجة إعلاء الشأن الوطني على «اليومي» والتفاصيل الآنية. فذلك له وقته. أما اليوم، فالمعركة لها سقف وهدف محددان، ولا يجوز إبقاء السنّة طُعماً لمن يريد توجيه رسائل. هناك من تحدث في الأيام الأخيرة عن أمرين «بالغي الأهمية» يصبّان في اتجاه واحد: إنعاش بعض الشخصيات والأحزاب والقوى السنّية الدائرة في فلك 8 آذار، والإضاءة على دور قوى الأمن في عدد من القضايا الأمنية الحساسة، سواء التجسس أو الكشف عن شبكات إرهابية لتفجير منشآت. ما فُهم منه أنها محاولة تأمين غطاء للذراع الأمنية للطائفة التي نُكبت وقت انسحب الحريري كقيادة سنّية.
وقد حرص السنيورة، في أيام مغادرة الحريري، على تهدئة الجو السنّي وسحب التوتر الإعلامي مع كل من طالته سهام أصوات سياسية وإعلامية، كما حرص على إظهار خطوط المعركة مع رئاسة الجمهورية وحدودها وعدم تضييع البوصلة في المعركة مع حزب الله.

ماذا بعد كلام السنيورة؟
إذا كان السنيورة نسّق مع نادي رؤساء الحكومات ودار الفتوى، فإن المرجّح أنه أطلع الحريري على خطوته، لكن من دون تنسيق. أما ردود الفعل من بعض المستقبليين فشبّهها بعض السياسيين بالطفولية، في خضم أزمة وطنية.
لكن الخشية التي أبداها حلفاء للسنيورة هي أن يبقى كلامه، على أهميته، من دون صدى، إذا لم يحصل سريعاً على الغطاء العربي والسعودي. فالمعلومات لا تتحدث عن تغطية مسبقة، بل عن عرض قدّمه السنيورة يستدرج به المظلة السعودية بما حمل من رسائل حادّة. لكنه إذا لم يحصل على التغطية اللازمة سعودياً وعربياً، فالخطورة أن يتحوّل خطابه إلى مجرّد «نداء» سنّي، يترجمه بعض المرشحين في الدخول في الانتخابات. وهذا ليس مقصد السنيورة مطلقاً.
قدّم السنيورة عرضاً لاستدراج المظلة السعودية بما حمل من رسائل حادّة

فهو وازن بين أمرين: الإطار السياسي العام والانتخابات.
عند هذه النقطة، يمكن البناء من الآن وصاعداً. فرئيس الحكومة الأسبق لم يضع آليات العمل الانتخابي، بل حدّد العنوان العام، ما يضع حلفاء مفترضين على المحك في ملاقاته في منتصف الطريق بعدما التقوا معه على «العنوان والأهداف». فالتقدمي الاشتراكي الذي يجد نفسه مطوّقاً اليوم يحتاج الى تواصل مع الطرف السني الانتخابي الذي سبق أن تلاقى وإياه سابقاً تحت راية المستقبل، لكنه لا يمانع اليوم في التلاقي معه في ظل خطاب السنيورة. والقوات اللبنانية التي تنسج مع السنيورة علاقة متوازنة تحرص على تأكيدها منذ حصاره في السرايا وزيارة رئيس حزب القوات سمير جعجع له، تنتظر منه آلية للعمل الانتخابي كي ترسم معالم المرحلة الانتخابية. وحلفاء من قوى 14 آذار يتطلعون بدورهم الى ما يمكن أن يسفر عنه خطاب السنيورة عربياً، ليبنى عليه محلياً في الانتخابات والتحالفات.
بين 14 شباط و14 آذار رسم السنيورة معالم مرحلة جديدة، يحاول معارضوه التقليل من أهميتها، ما يضاعف المسؤولية الملقاة على عاتقه في استكمال ما بدأه، وإلا أصبح الإحباط السنّي عنوان مرحلة عام 2022.