غادر «الوسيط» الأميركي آموس هوكشتاين بيروت في التاسع من شباط، بعد زيارةٍ استمرّت يومين، مخلّفاً وراءه ضربةً جديدةً لحقّ لبنان في مياهه البحريّة الجنوبيّة والثروات التي تستبطنها. المفاوضات التي أُريد لها أن تُحاط بالسرّية، على ما صرّح الممسكون بالملفّ، ما لبثت أن تكشّفت أسرارها وفاحت روائح تنازلاتها بعد تصريحٍ لهوكشتاين عبر وسيلةٍ إعلاميّةٍ لبنانيّةٍ مرئيّةٍ قبل مغادرته. كرّر هوكشتاين، مرّتين، أنّ المفاوضات تدور بين خطّين لا ثالث لهما: خطّ العدوّ رقم 1 والخطّ البائد عديم الأساس التقني و القانوني 23. سبق زيارة هوكشتاين للبنان «تطمينات» من مسؤولين لبنانيين تؤكّد بأنّ الخطّ اللبناني 29 أصبح وراءنا.شكّل ذروتها تصريح رئيس الجمهوريّة لـ«الأخبار» في 12 شباط: «هناك إطار تفاوض وضع سابقاً تولاه الرئيس برّي، ونعمل من ضمنه. خطّنا النقطة 23، وهي حدودنا البحرية. ليس تنازلاً بل حقنا الحقيقي والفعلي. تعديل المرسوم 6433 لم يعد وارداً في ضوء المعطيات الجديدة. هذا هو خط تفاوضنا الذي نتمسّك به... لدينا حوض غاز ونفط يتداخل مع إسرائيل هو حوض قانا، يصير التفاوض عليه في الوقت الحاضر».
تصريح رئيس الجمهوريّة أكمل عقد التواطؤ على الخطّ اللبناني 29 بين الرؤساء الثلاثة الممسكين بالملفّ. بدل اجتماعهم على موقفٍ وطنيٍّ يلتفّ حول الحقّ اللبناني ويهدف إلى تعظيم المصلحة الوطنيّة، اجتمعوا في نهاية الأمر على قتل الخطّ اللبناني 29 بحيث ضاع دمه بين الرؤساء. ما نقلته «الأخبار» عن الرئيس عون لا يتماشى مع سلسلة مواقف للرئيس، وأبرزها بتاريخ 13 تشرين الأوّل 2020، عبر بيانٍ رسميٍّ أعطى فيه توجيهاته للوفد المفاوض عشيّة توجّه الوفد إلى الناقورة، وتضمّن ما يلي: «أعطى فخامة الرئيس توجيهاته للوفد التقني المكلّف بالتفاوض غير المباشر استناداً إلى الاتفاق الإطار العملي للتفاوض حول ترسيم الحدود البحريّة، على أن تبدأ المفاوضات على أساس الخطّ الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برّاً التي نصّت عليها اتّفاقية بوليه نيوكومب عام 1923 والممتدّ بحراً استناداً إلى تقنية خطّ الوسط من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة، وِفْقاً لدراسة أعدّتها قيادة الجيش اللبناني على أساس القانون الدولي». موقف الرئيس الأخير لا يتوافق أيضاً مع الرسالة التي أرسلها لبنان إلى الأمم المتّحدة بتوجيهاتٍ منه كردّ على اعتراض العدوّ على إطلاق دورة التراخيص الثانية في المياه اللبنانيّة والتي شملت البلوكات الثمانية المتبقّية ومن بينها البلوكان 8 و 10 الواقعان في المياه الجنوبيّة. رسالة لبنان للأمم المتّحدة صنّفت حقل كريش الذي يقع جزؤه الشمالي شمال الخطّ اللبناني 29 وجنوب الخطّ البائد 23 كحقلٍ يقع في منطقة متنازع عليها. نفس الرسالة ذكّرت بـ«الحجج القانونية والميدانية الثابتة التي سبق وعرضها لبنان على طاولة المفاوضات غير المباشرة في الناقورة والتي تسمح له بتوسيع نشاطاته الاقتصادية جنوباً»، بالإشارة هنا إلى الخطّ اللبناني 29 الذي جهد الوفد اللبناني المفاوض خلال جولات المفاوضات الخمس على فرضه كمنطلق للمفاوضات مواجهاً بذلك العدوّ والوسيط معاً.
تبنّي أيٍّ من الخطوط الأخرى يقتل فرصة للبنان فاتته عام 2011 واستغرق عشر سنوات لبناء الدفع الذي تحتاجه


تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّه، وبتاريخ 24 شباط 2018، أعلن رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، الذي كان يقود المفاوضات مع الجانب الأميركي آنذاك، وبتصريح علني بعد لقائه مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد، أنه أبلغ الموفد الأميركي موقف لبنان الرافض للطرح الأميركي وبأنّ مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً في البحر هي ليست وحدها ملك للبنان وضمن مياهه الإقليمية وحدوده البحريّة «بل تُضاف إليها مساحة تزيد على 500 كيلومتر مربع جنوباً، هي أيضاً ملك للبنان. بالتالي، لا حق لإسرائيل ولا بميليمتر واحد ضمن هذه البقعة اللبنانية». ويكون هذا التصريح العلني الأوّل من مسؤول لبناني يعبّر فيه عن أحقّية لبنان بمساحات إضافية جنوب الخطّ 23. وللإشارة، مساحة الـ 500 كيلومتر مربع هي ما يعادل إعطاء نصف تأثير لصخرة تخليت.
نقطة التحوّل في موقف رئيس الجمهوريّة من الخطّ اللبناني 29 أعقبها ظهور إعلامي لرئيس الوفد اللبناني المفاوض العميد الركن بسّام ياسين للردّ على رئيس الجمهوريّة والدفاع عن متانة الخطّ اللبناني 29 الذي دافع عنه الوفد المفاوض في الجلسات الخمس في الناقورة. العميد ياسين، بدوره، صرّح في مقابلته التلفزيونيّة، وفي لقاء مع هوكشتاين خلال زيارة الأخير السابقة إلى بيروت، بأنّ لبنان على استعداد للقبول بحلّ يقوم على إعطاء نصف تأثير لصخرة تخليت، أي ما يوازي إعطاء لبنان حوالي 500 كيلومتر مربع جنوب الخطّ البائد 23، وهي سقطة لرئيس الوفد اللبناني المفاوض تضع المتبقّي من الـ 1430 كيلومتراً مربعاً، أي حوالي 900 كيلومتر مربع، خارج إطار التفاوض، لصالح العدوّ، قبل أن تبدأ المفاوضات الحقيقيّة.

الخطّ المتعرّج
في سياق التنازلات ذاته، وأثناء زيارة هوكشتاين وبُعيدها، سرّبت وسائل إعلام الحديث عن خطّ متعرّج يدور البحث فيه يؤكّد حقّ العدوّ بحقل كريش بقسميه الرئيسي والشمالي على أن يكون الحقل اللبناني المحتمل العابر للخطوط (قانا) من حصّة لبنان. حجّة الخطّ المتعرّج هو درء التطبيع عبر «تقسيم الحقول» بحيث تنتفي الحاجة لوجود حقول مشتركة قد يصبح إنتاجها مدخلاً للتطبيع. وفي الكلام عن الخطوط المتعرّجة يُراد حجب الرؤيا عن التخلّي عن الخطّ اللبناني 29 والعودة إلى خطّ هوف أو شبيه هوف. هنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقاط المتعلّقة بالخطّ المتعرّج. فلا يُعقل وجود خطّ متعرّج من دون الركون إلى خطّ مرجعي يُبنى على أساسه الخطّ المتعرّج. والخطّ المرجعي المُزمع يدور بأحسن حالاته بين خطّ هوف و الخطّ 23. إذا صدق الحديث عن خطّ متعرّج يعطي حقل قانا المحتمل للبنان فلا ريب حينئذٍ أنّ العدوّ «سيُعَوَّض» في مكان ما وعلى الأرجح في البلوك رقم 8 كما يبدو في الرسم التوضيحي رقم 3.

ماذا عن الحقول المحتملة؟
تقول التسريبات بأنّ مفاوضاتٍ تقنيّة قد تلي المرحلة الأولى لتحديد الحقول المحتملة بحيث تُقتسم هذه الحقول بين لبنان والعدوّ فتزيد الخطّ المتعرّج تعرّجاً كما يبدو في الرسم التوضيحي رقم 4. فالعدوّ يتمتّع بتفوّق تقني بخصوص معرفة ما في أعماق منطقة النزاع بحكم تجربته في حقول تمار وليفياثان وكريش وتنين، من جهة، ولعلمنا بأنّه يعرف ما عندنا وما عنده ونحن بالكاد نعرف ما عندنا من جهة أخرى. وماذا عن الاكتشافات المستقبلية؟ كيف ستُسوّى؟ فمهما كان عمق الدراسات الحاليّة حول الحقول المحتملة في منطقة النزاع سيأتي، على الأرجح، يومٌ تُكتشف فيه حقول ممتدّة غير تلك المحتملة الآن بحسب تلك الدراسات. فاكتشاف حقل «ظهر» في المنطقة الاقتصاديّة الخالصة المصريّة، وهو أكبر حقول الغاز المكتشفة في شرق المتوسّط، من قِبل شركة ENI الإيطالية عام 2015 جاء بعد 15 سنة من محاولات التنقيب الفاشلة من قبل شركة Shell العالميّة في تلك الرقعة.

توقّف المفاوضات، الذي قد يلي تثبيت الحقّ اللبناني، لن يطول على الأرجح إذا كلّف العدوّ تجميد الإنتاج من حقل كاريش


«تِلك إذاً قِسمَةٌ ضيزى»! نكون بذلك قد تنازلنا عن كلّ حقوقنا بالحقول التي تقع بين الخطّ المرجعي و الخطّ اللبناني 29 ونكون قد سلّمنا العدوّ أهمّ أوراقنا التفاوضيّة: حقل كريش. ما يحدث بالتالي هو مكسب خالص للعدوّ. إذا بدأ الإنتاج من كريش «بضوء أخضر» لبناني، صفحة النزاع على الحقل كريش تكون قد طُويت وهو المكان الوحيد الذي يستطيع لبنان عبره الضغط على العدو. بعدها تبدأ مفاوضات لا تنتهي لتحديد الحقول وامتداداتها واحتمالاتها، يكون للعدو فيها اليد الطولى. وستكون المفاوضات التقنية الطويلة والمعقدة مدخلاً سلِساً للتطبيع. فالعدوّ يكون قد ارتاح في كريش ونحن نريد أن نبدأ بالتنقيب والإنتاج بأي ثمن للخروج من ضائقتنا الاقتصاديّة التي ما كان سببها يوماً التأخّر في إنتاج الغاز بل الفساد وسوء الإدارة وانعدام الكفاءة.

خطّان أحمران
بمعزل عن الأشخاص ومواقفهم، الخطّ اللبناني 29 هو حقٌّ وطنيٌّ، أكبر من الجميع، وثّقته دراسة الجيش اللبناني القائمة على أسس تقنية وقانونية متينة ودافع عنه الوفد العسكري التقني المفاوض بشجاعة في الناقورة، رغم الخذلان، في وقتٍ احتاج فيه لكلّ الدعم. هو مُعطى لا يمكن القفز فوقه ويجب أن يصبح قضيّة رأي عام يخجل أمامها المتهافتون على التنازلات. فالخطّ اللبناني 29 هو الخطّ الوحيد الذي يجب أن يوضع أساساً لأيّ مفاوضات مع العدوّ تستهدف تعظيم المصلحة الوطنيّة. تبنّي أيٍّ من الخطوط الأخرى يقتل فرصة للبنان فاتته عام 2011 واستغرق عشر سنوات لبناء الدفع الذي تحتاجه.
خطّان أحمران وليس فقط خطّ واحد يجب أن يؤطّرا المفاوضات: لا للتطبيع مع العدوّ بأيّ شكل من الأشكال وتحت أيّ مُسمّى، ولا للتفريط في الحقوق والثروات الوطنيّة التي هي ملك لنا ولبناتنا وأبنائنا وأحفادنا.
وتبعاً لما آلت إليه الأمور في ملفّ الترسيم، أصبح من الواضح أنّ تعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة وحده يعيد تصويب الموقف اللبناني الذي أنهكته التنازلات. ما عدا ذلك لن يؤدّي إلّا لمزيد من التفريط بالمصلحة الوطنيّة. قد يقول قائل: ستتوقّف مفاوضات الترسيم إذاً... حسناً، فلتتوقّف إذا كان ثمن استمرارها المزيد من التنازلات. أقلّه ستُستأنف، حين تُستأنف، من مُنطلق وطني واضح مبني على الخطّ اللبناني 29. على أنّ توقّف المفاوضات، الذي قد يلي تثبيت الحقّ اللبناني، لن يطول على الأرجح إذا كلّف العدوّ تجميد الإنتاج من حقل كريش.
الحقوق ليست ملكاً لأيّ مسؤول يتنازل عنها تحت أيّ حجّة. هذه حقوق أبنائنا وبناتنا وأجيالٍ قادمة. ملفّ استراتيجي كملفّ المياه الجنوبيّة يسـتحقّ نقاشاً وطنيّاً حقيقيّاً أقلّه في مجلس الوزراء. بالتالي، حقٌّ لنا كلبنانيين أن يُعرض تقرير الوفد اللبناني المفاوض، والذي سُلّم لرئيس الجمهوريّة والممسكين بالملفّ والذي يسرد مجريات جولات المفاوضات الخمس وما سبقها وما تلاها ويحوي على توصيات تلخّص خيارات لبنان في هذه المرحلة. حقٌّ لنا أن يُعرض ذلك التقرير للنقاش الحقيقي في مجلس الوزراء بحيث تتحمّل كلّ القوى المشاركة في السلطة مسؤوليّاتها بخصوص هذا الموضوع الاستراتيجي.

*باحث وأستاذ في الجامعة
الأميركية في بيروت

(رسم توضيحي رقم 1) الخطّ اللبناني 29: تبدو في الرسم المياه الإقليميّة / البحر الإقليمي حيث للدولة سيادة على البحر الإقليمي وقاعه ومجاله الجوّي وثرواته، والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة حيث لا سيادة للدولة عليها؛ هي منطقة للدولة الحقّ الحصري في ثرواتها


(رسم توضيحي رقم 2) الخطّ اللبناني 29. يبدو في الرسم أيضاً كلّ الخطوط «المتداولة» الأخرى


(رسم توضيحي رقم 3) مِثال لخطّ متعرّج يقوم على الخطّ 23 كخطّ مرجعي. الخطّ يأخذ بعين الإعتبار حقليّ كريش وقانا (المحتمل) فقط ولا يأخذ بعين الاعتبار أيّ حقول محتملة أخرى على ضفّتي الخطّ 23


(رسم توضيحي رقم 4) مثال لخطّ متعرّج يقوم على الخطّ 23 كخطّ مرجعي ويقسّم الحقول المكتشفة والمحتملة بين لبنان والعدوّ. الخطّ يأخذ بعين الاعتبار حقليّ كريش وقانا (المحتمل) وحقول أخرى قد تحدّدها الدراسات الموجودة كحقول محتملة. الحقول الظاهرة باللون الأخضر هي مُتوهّمة و موضوعة فقط لتقريب الصورة