عند أطراف طرابلس، يقع حي المنكوبين على تخوم البداوي. «المنكوبون»، في العادة، صفة مؤقتة تطلق على ناجين من مناطق ضربتها كوارث طبيعية، وغالباً ما تُنسى بعد محو آثار النكبة. إلا منطقة «المنكوبين» في طرابلس التي التصق الاسم بها منذ ستة عقود واستقطب منكوبين من غير منكوبيها الأصليين.أنشئت المنطقة في زمن الانتداب الفرنسي، وكانت تسمى حينها «المنطقة الرابعة» قبل أن تتحوّل إلى قاعدة عسكرية فرنسية، ثم أميركية بعد وضع يد السفارة الأميركية عليها. بعد طوفان نهر أبو علي عام 1955 الذي تسبب بنكبة لمئات العائلات الطرابلسية، نزح هؤلاء إلى هذه المنطقة بحثاً عن مأوى، على أمل أن تعيد الدولة بناء منازلهم وتعيدهم إليها. ومنذ ذلك التاريخ، لم يتغير شيء، سوى التزايد المضطرد في أعداد العائلات التي انتقلت من أرياف الضنية وعكار للإقامة في هذه الأرض المنكوبة التي يسكنها اليوم نحو أربعة آلاف نسمة من النازحين من فقراء عكار والضنية وطرابلس، إضافة إلى عائلات سورية وفلسطينية.
في حروب «المحاور»، في السنوات الماضية، بين منطقتي جبل محسن والتبانة، برزت «المنكوبين» إلى الواجهة لتورّط بعض شبابها في الأحداث كونها ملاصقة للجبل ومتصلة بالتبانة. لكن الفقر والتهميش لم يعطيا المنطقة «الشهرة» التي أعطاها إياها انضمام شبان من أبنائها إلى تنظيمي «داعش» و«النصرة»، بعد اندلاع الأحداث في سوريا، وتنفيذ بعضهم عمليات انتحارية في طرابلس نفسها، وفي سوريا. وهي عادت إلى «الأضواء» أخيراً إثر «اختفاء» شبان من عاصمة الشمال، بينهم بعض أبناء «المنكوبين»، قبل أن «يظهر» هؤلاء ملتحقين بـ«داعش» في العراق.
جولة صغيرة في أرجاء الحي تكشف مظاهر فقر مدقع يقل مثيله في لبنان رغم الفقر الذي يعمّه. أكوام من النفايات تغطي ما يسمّى «طرقات» حوّلتها السيول إلى مستنقعات، وأطفال شبه عراة يلعبون حفاة تحت الأمطار. مدخل الحي مستنقع واسع يقود إلى منازل معظمها أكواخ من صفائح معدنية. المدرسة الوحيدة في «المنكوبين» مخصصة للأيتام، يسجّل فيها الأهالي أبناءهم بدل التسرب المدرسي أو لعدم تكبّد كلفة إرسالهم إلى مدارس بعيدة.
عادل إدريس، النازح إلى المنكوبين من عكار، يقول إن الجميع ينتظر الانتخابات التي يعتبرها كثر «موسم الاسترزاق وتحقيق الخدمات». إذ «يتذكرون وجودنا ويرسلون السيارات لتقلنا إلى مراكز الاقتراع قبل أن تنتهي الحكاية مساء بعد صدور النتائج».
يأسف محمد م. لـ «الصيت السيئ للمنطقة، فيما الدولة غائبة منذ إنشاء الحي. لا مدرسة ولا مستوصفات ولا فرص عمل»، محمّلاً الدولة مسؤولية انزلاق شباب المنكوبين إلى مصيدة الإرهاب. جاره عماد بغدادي، ابن التبانة الذي يقيم في الحي منذ عشرات السنين، يلفت إلى «أننا نرى الدولة في المنكوبين كل أربع سنوات قبيل الانتخابات النيابية. أما في بقية أيام السنة، فلا أثر لها. حتى الحفر الصحية تطوف بشكل متكرر في الطرقات من دون معالجة».
جولة صغيرة في أرجاء الحي تكشف مظاهر فقر مدقع يقل مثيله في لبنان


هدية الناظر تقيم في غرفة مسقوفة بصفائح معدنية. رائحة الرطوبة والعفن تنخر الجدران كما تنخر عظامها وعظام أبنائها اليتامى. قبالتها، يرتفع مبنى متهالك مهجور لمدرسة أقفلت أبوابها منذ سنوات.
الظروف غير الصحية في المنازل المتهالكة ومجاري المياه المبتذلة المكشوفة تنشر الأمراض من دون القدرة على الاستشفاء. وضفة الدهيبي لا تملك سوى التفرج على زوجها المقعد في فراشه بعد تلقيه إصابة بالغة أثناء عمله كأجير يومي. هي وأولادها الأربعة يعملون في جمع الخردة وبيعها لشراء حاجياتهم الأساسية، فلا يبقى مما يجمعونه للطبابة. أما سعدية، وهي أم لأربعة أطفال، فلم تجد أي جمعية تستقبل أحد أبنائها من ذوي الاحتياجات الخاصة.
بؤرة الأزمات المعيشية والاجتماعية تتبرأ منها الجمعيات والبلديات. يلوم كثير من الأهالي بلدية طرابلس التي لا تعترف بالحي رغم أن الكثير من سكانه ينحدرون منها. فيما لا يستغرب آخرون تجاهلهم لأنهم لا ينتخبون في طرابلس.
رئيس بلدية وادي النحلة خالد الجزار أوضح بأن المنكوبين، عقارياً، تابعة لبلديته وليست في نطاق بلدية طرابلس. وأكد «أننا نقوم بواجبنا تجاه المنطقتين، وادي النحلة والمنكوبين، رغم أن موازنة البلدية لا تتجاوز 120 مليون ليرة في السنة، وهذا الرقم لا يمكن أن يلبي أي مشروع لولا الجمعيات المحلية والأجنبية التي تهتم بالمنطقة».
رغم المشاهدات، يصر الجزار على استعراض «إنجازات» بلديته، ومنها ملعب رياضي في ساحة المنكوبين ومدارس لاستقبال الأيتام وإنشاء شبكة للصرف الصحي، مقارناً الوضع اليوم بما كان عليه «قبل سنوات حين كانت أحياء المنكوبين تعيش في العصر الحجري حيث لا صرف صحي ولا قساطل لمياه الشرب وطرقاتها غير معبدة». ويؤكد الجزار أن «مساعدات بالجملة تصل كل سكان المنكوبين، والجميع يعيش في بحبوحة (!) نتيجة توافد عشرات الجمعيات إلى المنطقة. لكنهم اعتادوا النق»! رغم الإنجازات، يقر الجزار بالعجز عن مكافحة ظاهرة مروجي المخدرات التي «تحتاج إلى جهد من الدولة والقوى الأمنية»، وكذلك السرقة التي تقترن بانتشار تعاطي المخدرات. «كثير من الشبان يسرقون لتأمين المال لشراء المواد المخدرة والحبوب. وقد تعاونت مع القوى الأمنية لتوقيف عدد من أخطر تجار ومروجي المخدرات»، لافتاً إلى أن «معظم السرقات تطال كابلات كهربائية وأشرطة نحاس وسيارات ودراجات نارية».