تعدّدت الأسباب والموت واحد. وفاة طبيعية، حادثة، انتحار، جريمة قتل. وإذا كانت الأدلة غير كافية، سيُسّجل السّبب بوصفه «غير محدد». خلال التحقيقات الجنائيّة يستعين القضاء بطبيب شرعي أو أكثر لتنظيم تقرير يحدد فيه أسباب الوفاة وحالة الجثّة. بحسب المرسوم رقم 7348 الصّادر سنة 1946، يتولّى الأطباء الشّرعيون القيام بالمعاينات الطبيّة وأعمال التشريح وإعطاء التقارير بشأنها. وهذا يتضمنّ فحص الجثث، والتشريح ووصف حالات العنف وتحديد العطل الجسدي، وتحديد العمر وغيرها من الأمور التي تتطلب خبرة في علم السموم وعلم الجريمة والأدلة الجنائية. أثناء معاينة الجثة، يسجّل الطّبيب الخصائص الفيزيائية للمتوفى (الطول، الوزن، وشم …)، ويصف الجثة مع إعطاء أهمية للون وحرارة الجثّة والروائح المنبعثة منها وحالة تصلّب الجسد. هذه معلومات تساعده على تحديد وقت الوفاة ووضعيّة الجسد ساعة الموت وما إذا تمّ تحريك الجثّة. ويفحص الجلد أيضاً بحثاً عن أي خدوش أو كدمات على الجسم. وتُجمع عينات من تحت الأظافر ومن الشّعر والدّم ومن فتحات الجسم المختلفة التي تُرسل مع الملابس للمعاينة في المختبر الجنائي.
ولتحديد السّبب الطبّي للوفاة، قد يلجأ الطّبيب الشرعي إلى تشريح الجثة ليفحص بشكل مفصّل ودقيق جسم الشّخص أو بعض الأعضاء.

تخصّص مفقود
بحسب المعايير الدوليّة، على الطّبيب الشرعي أن يكون طبيباً حاصلاً على شهادة الباتولوجيا (علم الأمراض)، وأن يتخصّص بعدها في الطّب الشّرعي لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، ثم يتلقّى تدريباً متقدّماً في علم التشريح (Anatomy)، وعلم الأمراض، وفي معاينة وتشريح جثث أشخاص توفّوا بشكل غير متوقع أو نتيجة عنف (trauma). ولا يقتصر تدريبهم على الجانب الطّبي فحسب بل يتعدّى ليشمل مفاهيم مختلفة في العلوم الجنائيّة، ما يسمح لهم بتحليل الجروح النّاتجة عن الطلقات الناريّة مثلاً.

400

عدد المركبات العضوية المتطايرة المكونة للغاز المنبعث من الجثة بعد الوفاة. هذا الغاز، الذي تنتجه الكائنات الحية الدقيقة خلال مراحل التحلل المختلفة للجثة، هو المسؤول عن الرائحة الكريهة


أمّا في لبنان، بحسب المرسوم الذي يُعنى بتنظيم مهنة الطب الشرعي في لبنان، فإن الطبيب الشرعي طبيب مختصّ (من دون ذكر الاختصاص) مسؤول عن جميع الأعمال التي يقتضيها التحقيق من الوجهة الطبيّة الفنيّة. يُكلّف الطبيب في القضايا بغضّ النظر عن مجال اختصاصه ومؤهلاته العلميّة، الطبيّة والعمليّة. في لائحة الأطباء الشّرعيين المسجلين لدى وزارة العدل، أطباء من اختصاصات مختلفة من علم الأمراض، الطب العام، الجراحة، طب العائلة، الأمراض النسائية وأمراض القلب. وإضافةً إلى النقص في كوادر المتخصصين بالطب الشرعي تحديداً، من المفترض أن يبقى الطبيب الشرعي في لبنان على اطلاع دائم على أحدث التطورات التي تطرأ في هذا المجال من خلال حضور الندوات والمؤتمرات ومتابعة المجلات مثل المجلة الأمريكية للطب الشرعي وعلم الأمراض The American Journal of Forensic Medicine and Pathology، ومجلة الطب الشرعي وعلم السمومJournal of Forensic Medicine and Toxicology ومجلة الطب الشرعي للأشعة والتصوير Journal of Forensic Radiology and Imaging.

«شرعيّة» بلا تنظيم
بالرغم من الأهمية التي يمثلها الطب الشرعي لمساعدة القضاء على كشف الحقيقة، فإن القانون اللبناني ما زال خالياً من تشريع كامل في هذا الموضوع. فحتى الآن لم يصدر المرسوم التنظيمي لمصلحة الطب الشرعي والأدلة الجنائية، وشروط تعيين الأطباء والموظفين، وفقاً للمادة 31 من المرسوم الاشتراعي رقم 151 الصادر سنة 1983 . يتبع الطبيب الشّرعي واختصاصه لوزارة العدل، لا وزارة الصّحة، إذ يُعيّن من دون استشارة نقابة الأطباء. ولا يكون مسؤولاً أمام لجنة من أطباء شرعيّين ومتخصّصين وخبراء أدلة جنائية، قادرة على فهم ومناقشة المعلومات والتحليلات الطبيّة والتأكد من صحّتها قبل عرضها على القاضي.

يضطر الطبيب إلى القيام بالتشريح في المستشفيات التي تفتقر إلى التجهيزات والمعدات المطلوبة لإجراء الفحوصات وحفظ الأعضاء


من هنا تبرز أهمية تنفيذ رسم تنظيمي للّجنة العلميّة لمصلحة الطبّ الشّرعي الذي يُحدّد اختصاص أعضائها ومدى خبرتهم وإلمامهم بالطبّ الشرعي والتشريح والعلوم الجنائية. إذ ينبغي للّجنة العلميّة لمصلحة الطبّ الشّرعي أن تنظّم الدورات التّدريبيّة التي يجب أن يخضع لها الأطباء الشرعيون، وتقوم بإعداد البروتوكولات الأساسيّة التي تساعد الطبيب الشرعي في عمله، وتُبيّن له الكيفيّة التي يجب أن يتبعها في مسرح الجريمة، وعند قيامه بإجراء التشريح، ووصف جثث مجهولي الهوية وأخذ عينات السموم والأنسجة.

كورونا تلقي بثقلها على الطبيب
في ظلَ غياب الوسائل العلميّة والتقنيات المتطورة التي يجب أن تكون متاحة وموضوعة تحت تصرف كلّ الأطباء الشرعيين كعدم توفر مشرحة متخصّصة وحديثة، يضطر الطبيب إلى القيام بالمعاينات والتشريح في المستشفيات التي تفتقر إلى التجهيزات والمعدات المطلوبة لإجراء الفحوصات وحفظ الأعضاء والجثث بالشكل الصحيح. واليوم، تزداد تلك المشاكل بسبب الأزمة الاقتصادية ومعاناة القطاع الطبي وانقطاع الكهرباء والمستلزمات الطبية. فحتى الآن، رواتب الأطباء الشرعيين رمزيّة ولا تتناسب مع الغلاء المعيشي، أتعاب عملية التشريح مثلاً لا تزيد على 150 ألف ليرة لبنانية.

اختصاص الطبيب غير محدّد في مرسوم تنظيم مهنة الطب الشرعي في لبنان


وبسبب ارتفاع الدولار، هناك صعوبة في تأمين مستلزمات التشريح من مواد وأدوات طبية ومعدات الحماية الشخصية (قفازات، أقنعة، واقيات الوجه ...) ومواد التعقيم والتطهير. واليوم تتطلب جائحة كورونا اتخاذ تدابير وقائية إضافيّة قد لا تكون متوفرة دائماً، إذ لا يقتصر الأمر على ارتداء معدات الحماية. هذا ما قد يمنع الطبيب من القيام بالمعاينات والتحليلات المعمّقة التي تفيد التحقيق، بالإضافة الى تعريض حياة الطبيب للخطر.
بما أنّ معاينة أي جثة إجراء عالي الخطورة، يجب تجهيز بيئة للعمل آمنة ومعقمة للطبيب الشرعي مجهزة بفلتر لتنقية الهواء وغرف للتشريح مجهزة بالتهوية بالضغط السلبي (negative pressure)، وذلك لحماية الطاقم من الرذاذ والسوائل الجسدية ولمنع تفشّي الأمراض في المستشفى.