يتخطّى إعلان الرئيس سعد الحريري قرار الانسحاب من الحياة السياسية اللحظة الآنية. ففي مرحلة حساسة على الصعيد اللبناني العام، لن يكون قرار على هذا المستوى أمراً يمكن تخطّي تأثيراته بسهولة، لا بل إنه يؤسس لمرحلة جديدة استناداً الى اعتبارات وتحدّيات مستقبلية.ارتبط اسم الرئيس رفيق الحريري باتفاق الطائف، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة، وشريكاً في النظام الذي أرساه دستور الجمهورية الثانية. وبغضّ النظر عن سوء تطبيق الطائف في كل مندرجاته في مرحلة التسعينيات، كانت الطائفة السنية ركيزة أساسية في هذا الاتفاق، وقد ضاعف وجود الحريري من تأثيراته وحضوره في الحياة السياسية لسنوات طويلة في ظل هذا الاتفاق. ومهما قيل عن اتجاهات سياسية متنوعة، فإن موالاة الجزء الأكبر من السنّة للحريري، للرئيس الراحل ونجله وللعائلة، لا لبس فيه. اليوم يخرج سعد الحريري، ولن يكون خروجه وحيداً، بل يخرج معه السنّة من نظام الطائف الذي يخسر، بموقف رئيس تيار المستقبل، أحد الأركان الأساسيين لهذا النظام الذي يعاني ضغوطاً كثيرة. فأحد الذين أصابهم كلام الحريري هو نظام الطائف الذي يتلقّى أساساً، منذ مدة طويلة، سهاماً كثيرة من قوى سياسية تصوّب عليه، فيما كانت القوى السنّية تتشدّد في التمسك به. والخروج السياسي لأحد أركان الطائف يظهر حجم الضغوط التي سيتعرّض لها النظام من الآن وصاعداً.
فقرار الحريري سيفتح الباب أمام اجتهادات ليس من السهل التعامل معها، كونها تحصل للمرة الأولى لهذه الطائفة التي كانت شريكة أساسية في النظام، ولا سيما أن ارتداداته لن تتوقف، لا بل ستتزايد تدريجاً، إذا أُخذت في الاعتبار ثلاثة مستويات مهمة لقرار الحريري. مع ضرورة التوقف بداية عند سؤالين: من يفسّر معنى تعليق العمل السياسي، وهل هو مجرد موقف عاطفي يتعلق بغياب الحريري عن المشهد السياسي فحسب، أم قرار فعلي بكامل مضامينه، وهل له مفعول آني أم أنه مرتبط بالانتخابات وما بعدها فحسب. أي أن قرار الانسحاب من الحياة السياسية، بحسب أي قراءة سياسية، يفترض أن يبدأ فوراً بتعليق العمل في المجلس النيابي الحالي أو أي نوع من أنواع الانكفاء، بدل أن يكون متروكاً لما بعد 15 أيار، ما يفسح المجال لمزيد من الأحداث والتوترات السياسية والأخذ والردّ، لأن أي تعليق آني للعمل السياسي بكل وجوهه، يفقد الجلسات النيابية ميثاقيتها، وهذا ما سيلاقي ردة فعل لدى الرئيس نبيه بري قبل حزب الله. فهل يمكن تصور جلسة نيابية بحضور كامل لنواب المستقبل لمناقشة قانون الانتخاب مثلاً، فيما هم يقاطعون العملية الانتخابية برمتها؟ واستطراداً، هل يمكن أن يتحول انسحاباً سياسياً شاملاً، بما في ذلك مجلس الوزراء الحالي، بما يعني التخلّي عن المشاركة السياسية في الموافقة أو الاعتراض، كمرجعيات سنّية، على تعيينات وقرارات سياسية؟
والسؤال الثاني: في حال عدم حصول الانتخابات، كيف ستكون صورة المجلس النيابي الحالي، وماذا سيكون مصيره بين من سيطالب بالتمديد له أو بين الفراغ الذي قد يصيبه، في حال انتهاء ولايته، من دون اتفاق بين القوى السياسية، وكيف سيتصرّف نواب المستقبل وقيادته تجاه هذه الحالة المتوقعة؟
في حال عدم حصول الانتخابات كيف سيتصرّف نواب المستقبل وقيادته؟


أما في حال الإبقاء على موعد الانتخابات، فإن انسحاب القوى السنّية بعدما تعرّض العصب السني في الطائف لهزة قوية، سيرتدّ على ثلاثة مستويات: فللمرة الأولى سيكون السنّة غائبين عن المجلس النيابي، بما يمثّلون سياسياً، وليس لمجرد حلول شخصيات سنّية محل الحاليين من اتجاهات سياسية أخرى. وهذا يذكّر بالشخصيات التي حلّت محل النواب المسيحيين في انتخابات المقاطعة عام 1992. ثانياً، في حال استمرار المسار السياسي الحالي على هذا النحو، فإن الطرف السنّي سيكون غائباً كذلك عن أول حكومة بعد الانتخابات. الحكومة التي ترأسها شخصية سنية، ستكون حكومة تتشكل بغياب القوى السنّية. وهي هنا لن تشبه الحكومة التي شكّلها الرئيس نجيب ميقاتي بعد استقالة حكومة الحريري عام 2011، لاختلاف الظروف المحلية والإقليمية.
والمستوى الثالث رئاسة الجمهورية. فرغم الاعتياد المزمن أن رئيس الجمهورية يأتي وفق تسويات سياسية محلية وإقليمية ودولية، إلا أن القوى المحلية تشارك في طبخة الرئاسة ولو فولكلورياً. ولكن الغياب السنّي، بعد النيابة والحكومة، سيكون مؤثّراً في انتخابات الرئيس المقبل. وهنا سيكون أكبر التحديات التي يواجهها هذا الاستحقاق، بعد سنوات من تأثير المعادلة السنّية بقوّة في انتخابات الرئاسة، عدا عمّا حملته التسوية الرئاسية من اتفاق ثلاثي سنّي ــــ مسيحي ــــ شيعي. وهذا يعني أنه منذ الآن بدأت السيناريوات ترتسم حول مصير الرئاسة الأولى، ومن سيخلف رئيس الجمهورية وهويّته السياسية. هذا كله في حال بقاء انعكاس الانكفاء في حالته السلمية ولم يتطوّر الوضع اللبناني عموماً الى حالات جديدة من الفوضى التي لن تسمح بإمرار أيّ استحقاق.