يشكّل المجال الثقافي الملعب الأكبر لتوغّل أموال جورج سوروس في العالم العربي (كما ظهر في البيانات التي نشرتها «الأخبار» الأسبوع الماضي). لكن سوروس ليس اللاعب الوحيد في هذا المجال. هناك لاعب آخر مات منذ زمن، منذ 75 سنة تحديداً، لكن لا يزال طيفه يلاحقنا. إنه صانع السيارات هنري فورد. لن يتمكّن أحد من وصف لعنة هنري فورد على عمّال المصانع كما فعل شارلي تشابلن في فيلمه Modern Times (1936) أو «العصر الحديث». في نقده للعصر الحديث، يظهر تشابلن حياة عامل مصنع يعمل على «خط التجميع المتحرّك»، الذي ابتكره فورد واعتُبر إنجازاً ثورياً في مجال الإنتاجية في الصناعة يومها، وهو فعلاً كان ثورة في استغلال العمّال. اللافت أن استغلال هنري فورد لعمّاله ومراكمته لفائض قيمة عملهم الذي سلبهم إياه لا يزال يثمر خدمات للرأسمالية المعولمة حتى يومنا هذا. واللافت أكثر هو أن هذه الخدمات تأتي على شكل مِنحٍ «خيرية» يمنّن فيها الناهب المنهوب، والأخير يتّخذ الأول مثالاً أعلى له ردّاً للمعروف. لا أظن أن حتى فورد كان يحلم بأن إرثه وثروته سينتجان معامل للثقافة العربية، مثلاً وليس حصراً، وأن صنّاعها لن يكونوا إلّا خط تجميع لأفكار تُملى عليهم عبر استراتيجيات هيمنة تصيغها مصالح رأس المال، ويا نعم الإبداع.
السيارة التي أنتجها فورد على خط تجميعه الثوري كانت الـ Model T، أو النموذج تاء (لا أدري إن كانت التاء مفتوحة أو مربوطة)، وكان العمال يقضون أيامهم في المصنع يكرّرون الحركة ذاتها التي يتقنونها أو يُلَقَّنونها، أو المهارة كما يحبّذ محفّزو الرأسمالية تسميتها، على مدى ساعات وأيام وسنين لكسب قوتهم، وإن كان ذلك على حساب صحتهم وسعادتهم، والأهم انسلاخهم عن المنتج الذي يفترض أن يعطي العامل حساً بالإنجاز. المنتج النهائي في أيام فورد كان سيارة تشبه كل السيارات الأخرى التي سبقتها وتلتها على خط التجميع، لكنها أرخص من السيارات المنافسة.
أمّا النموذج تاء الفوردي في فنون العرب، فقد جاء في حقبة ما بعد عصر روتانا، أي أنه لم يكن من الصعب التفوّق على الانحطاط الذي سبقه. لكن مع ذلك، يبدو أن اتّخاذ الفنانين لذائقة وكرم طويل العمر فلان أو علتان ملهماً ومعياراً للفن يبقى أفضل بأشواط من إنتاج تلك الفنون على خط تجميع أحاديّي المهارة. لكن لئلا نظلم هنري فورد كثيراً، فرغم استغلاله لعمّاله هو كان يريد للعمّال في مصانعه أن يكسبوا أجراً يكفيهم لشراء المنتج الذي ينتجونه وإن كان بعد سنين من الادّخار، إذ كان أجر العامل في مصانعه التي تسحق الروح مغرياً نسبياً مقارنة بما كان متاحاً في حينها في مدينة ديترويت الأميركية وجوارها. أجور «فورد» لخدمة الاستعمار اليوم أيضاً مغرية، بل مغرية جداً للبعض الذي يضع يده على التمويل أولاً، وتعلّم من فورد الأول استغلال عمّاله، والعمل المطلوب من العمّال هو أيضاً ساحق للرّوح. لكن الفرق اليوم هو أن منتج مثقّفي فورد العرب، الرخيص هو الآخر، لا يشتريه أحد خارج فقاعة المغرّر بهم… ولا حتّى بالبلاش.