اتّخاذ السعودية قراراً بمنع دخول البضائع اللبنانية إليها، والتضييق على الصادرات اللبنانية في بعض الدول العربية، يكشفان عن خَلل تركّز العلاقات التجارية الخارجية للبنان في أسواق مُحدّدة على صعيد التصدير إلى الخارج. دائماً ما يُثار موضوع العلاقات والاتفاقيات التجارية من باب أثرها السلبي على الاقتصاد الوطني، ومساهمتها في استنزاف الدولارات، من دون وجود مردود إيجابي لجهة انتشار المنتجات اللبنانية في مختلف الأسواق العالمية. ولكنّ الأمور لا تنحصر عند هذا المستوى. فالمسؤولون في الدولة وضعوا البلد «بين فكّي الوحش»، فيما خصّ استيراد المواد الأولية أيضاً. قرار السعودية شنّ حربٍ سياسية، قبل شهرٍ، أضاء على عدم امتلاك لبنان «امتياز» التنوّع في ما خصّ أسواق البتروكيماويات تحديداً، الضروري للعديد من الصناعات، علماً بأنّ هذه المواد متوافرة في بلدانٍ قريبة جغرافياً للبنان، ويُمكن أن تُشكّل خياراً «إضافياً» له.
أنقر على الصورة لتكبيرها

ثلاث مواد خام تدخل في صناعة البلاستيك، تُعدّ السعودية المصدِّر الأول لها إلى لبنان، سيتأثّر استيرادها بسبب الخلاف السياسي الذي افتعلته المملكة الخليجية. في الإجمال، «لا يُخَزِّن الصناعيون كميات كبيرة من هذه المواد، فما نملكه حالياً يكفي لقرابة شهر أو شهرين»، على ذمّة الرئيس التنفيذي لمجموعة «إندفكو» الصناعية، النائب السابق نعمة افرام. افرام يوضح بأنّ «الشركات، ولا سيما الكبيرة، لا تشتري موادّ خام من مصدر واحد. أكيد هناك مصادر أخرى لاستيراد البتروكيماويات، لكن المواد الآتية من السعودية تملك قيمة تنافسية عالية لجهة النوعية والسعر وكلفة الاستيراد النهائية». يتحدّث افرام عن تكاليف الشحن التي ارتفعت في السنتين الأخيرتين، «من هنا أهمية أن يكون المصدر قريباً إلينا، وإلا ستتأثّر كلفة الإنتاج وسعر السلعة التي يشتريها المُستهلك». كلام افرام وتركيزه أثناء الحديث معه على ضرورة حلّ الخلاف مع السعودية للحفاظ على «عُمق لبنان العربي»، لا يتناقض مع وجود مصادر «عربية» أخرى لهذه المواد: اليمن، عُمان، الإمارات، مصر، تونس، المغرب، الكويت، وسوريا. فضلاً عن توافرها في بلدان محيطة، كتركيا. الأمر لا يحتاج أكثر من أن تُحدّد الدولة سياستها ورؤيتها الاقتصادية، وعلى أي أساس تُختار الأسواق، وما الهدف الذي يُراد بلوغه. فعلٌ بسيط ومُعقّد في الوقت نفسه، لبلدٍ كلبنان تُسيطر عليها دولة عميقة اختارت طوال السنوات الماضية الارتهان الاقتصادي والتجاري.
المادة الأولى التي يتم استيرادها هي الـ«بولي إيثيلين»، التي تُعدّ من الأكثر إنتاجاً في العالم، وتحتل الصين المرتبة الأولى في تصديرها (سنة 2019، صدّرت الصين بقيمة 3.55 مليارات دولار من الـ«بولي إيثيلين»). يوجد نوعان من الـ«بولي إيثيلين»: المنخفض الكثافة ويُستخدم في صناعة العبوات البلاستيكة، الأكياس، الأغلفة البلاستيكية. والنوع الثاني هو العالي الكثافة، المُستخدم مثلاً في تصنيع أنابيب الصرف. أكثر من 60 دولة تُصدّر الـ«بولي إيثيلين» في العالم... اختار لبنان أن يُركّز تأمين حاجاته منها، من السعودية. سنة 2020، تم استيراد «بولي إيثيلين» بقيمة 25 مليوناً و424 ألف دولار أميركي من السعودية. وحتى آذار عام 2021، كان لبنان قد استورد بقيمة 10 ملايين و453 ألف دولار. يوجد 13 مصدراً آخر لهذه المادة، ولكن الكميات منها هزيلة أمام ما يتم استيراده من السعودية، وغير كافية لتعويض النقص فيما لو قرّرت قيادتها معاقبة لبنان كلّياً.
إذا قرّرت السعودية وقف التصدير إلى لبنان، فستُعاقب بذلك صناعاتها


المادة الثانية هي الـ«بولي بروبلين»، وتُستخدم في التغليف، النسيج، القرطاسية، الألعاب، الحاويات، التجهيزات المخبرية، مكبرات الصوت، بعض أجزاء السيارات... السعودية هي الأكثر تصديراً له في العالم (بقيمة 5.3 بلايين دولار سنة 2019)، من أصل 50 دولة تُنتجه، وإلى لبنان الذي استورد كميات بقيمة 7 ملايين و676 ألف دولار في عام 2020. وبقيمة مليون و905 آلاف دولار حتى آذار سنة 2021.
المادة الثالثة هي الـ«بوليمارت بروبلين»، تدخل في صناعة مقابض أواني الطبخ، أغطية الأسلاك الكهربائية، أبواب الثلاجات، الهياكل الخارجية للأدوات الكهربائية، الصوف والحرير الصناعي، عبوات المشروبات الغازية، أوعية حفظ الدم من التلف، أجهزة غسل الكلى، أنابيب الأوكسيجين... كما المادتين السابقتين، يتركّز الاستيراد اللبناني لـ«بوليمارت» من السعودية، فبلغ الاستيراد 5 ملايين و979 ألف دولار سنة 2020، ومليوناً و455 ألف دولار حتى آذار سنة 2021.
«الأزمة عم تاكل معنا بالصحن، تُضاف إلى الصعوبات التي تواجهها أصلاً الصناعة اللبنانية»، يقول رئيس مجلس إدارة معمل «جي بي آي» للصناعات البلاستيكية، الوزير السابق فادي عبّود. «فما بين 80% و85% من هذه المواد الخام تُشترى من السعودية، وقد زاد الاعتماد عليها بسبب تضاعف كلفة الشحن البحري ما بين 4 و5 مرات، ما أدّى مثلاً إلى تراجع الاستيراد من الصين بحدود الـ 90%. أما بالنسبة إلى أوروبا، فلم ترتفع كلفة الشحن بل يُعانون من نقص في هذه المواد وتأخير في الشحن». رغم ذلك، يُدرك عبّود أهمية «التفتيش عن أسواق ثانية»، ذاكراً على سبيل المثال الأردن الذي شكّل خلال الحرب السورية ممراً للمواد السعودية الخام إلى الشام، «وفيها العديد من المواد الخام البلاستيكية صنع إيران، بنوعية جيدة». ولكنّ عبود حاول «دقّ الباب» بصفته الصناعية، «وراسلتُ 8 مصانع إيرانية، من دون أن يردّ علينا أي مصنع».
إذا ما قرّرت السعودية اتّخاذ قرار بمنع التصدير نهائياً منها إلى لبنان، «فسيكون له أثر قاسٍ علينا، ولكنّها أيضاً بذلك تُعاقب صناعاتها»، نظراً إلى الكميات الكبيرة التي يستوردها القطاع الصناعي اللبناني. يقول عبّود إنّه «تمّ شحن الكميات السابقة التي كنا قد اشتريناها قبل الأزمة، ولم يتوضّح بعد ما إذا كان سيُمنع التصدير نهائياً». يتلاقى ذلك مع ما يقوله نعمة افرام عن أنّه حتى الساعة لم تبلغ الضغوط حدّ الخنق، «بعض المواد توقّف تصديرها، والبعض الآخر لا يزال يُشحن إلى لبنان».
وجود علاقات تجارية غير مُستقرة يُعطي دفعاً أكبر لتوسيع «بيكار» البحث عن خيارات أخرى. فالمطلوب ليس قطع علاقات والبحث عن بدائل نهائية، بل اللجوء إلى سياسة «تنويع المخاطر» حفاظاً على مصالح البلد الإنتاجية، فلا يبقى القطاع الصناعي أسير التجاذبات السياسية.