فتحت المواقف الاخيرة لرئيس الجمهورية ميشال عون («الاخبار»، 19 تشرين الثاني) سجالاً بدأ، ولم ينته. كلٌ قرأه تبعاً لموقعه وموقفه منه وللتفسير الذي يريده له: مؤيدو الرئيس استطابوا فهمه، ومعارضوه رفضوه على طريقتهم واجتهدوا في ما توخّوه هم قبل ان يرجموا الكلام، والبعض الثالث قلّبه في اكثر من وجهة صائبة او ملتوية. بيد ان ما قاله عون دقّ ناقوس الخطر حيال الاستحقاقين الدستوريين المقبلين، لا تفصل بينهما بالكاد اشهر قليلة. لكلٍ من هذين الاستحقاقين مهلة دستورية باتت محفوفة بالاخطار، وإن هي معيّنة ومحدّدة في النص بلا التباس.ما قاله عون عبَّر سلفاً عن احترامه للمهلتين الدستوريتين لكلا الاستحقاقين، بتأييده اجراء الانتخابات النيابية ومن ثمّ من بعدها الانتخابات الرئاسية. تبدأ مهلة الستين يوماً السابقة لانتهاء ولاية البرلمان عملاً بالمادة 42 من الدستور في 22 آذار، وتنتهي في اليوم ما قبل الاخير من الولاية في 20 ايار. بذلك، اذا كان لا بد من اعتبار قطبي الخلاف على موعد اجراء الانتخابات النيابية، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، اذ يطالب كل منهما بيوم اقتراع مغاير للآخر، لكن من ضمن المهلة الدستورية نفسها. الا انهما يختلفان على ما يتصل بقانون الانتخاب لا بالاستحقاق نفسه: الاول يريد الموعد في آخر المهلة ما بين 8 و15 ايار، والثاني في اولها في 27 آذار. بدورها المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية عملاً بالمادة 73، وهي شهر على الاقل وشهران على الاكثر قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في 31 تشرين الاول 2022 تترجّح ما بين المدة القصوى 31 آب، والمدة الدنيا 30 ايلول.
الامر نفسه ينطبق على الافرقاء الآخرين جميعاً الذين يصطفون وراء الرئيسين، وهما سيكونان الاكثر والاقوى شأناً حيال استحقاق الرئاسة اللبنانية: عون المعني باجراء تسليم وتسلّم بينه وخلفه، وبرّي المعني تبعاً للمادة 73 بتوجيه الدعوة الاولى الى انتخاب الرئيس وتحديد مواعيد جلسات التصويت كلما تعثر انعقاد جلسة. على نحو كهذا، يصبح الاشتباك على الاستحقاقين ذا مغزى بين الرجلين اللذين لم تسبق الحياة الدستورية اللبنانية ان شهدت نزاعاً مريراً ما بينهما، في موقعيهما الحاليين، كما من قبل في مواقع الحرب اللبنانية، طوال عقود من الزمن وليس مذ انتخب الاول رئيساً للجمهورية. اختلفا على انتخابات 2016 وتصالحا. تنازعا مرة بعد اخرى وتهادنا. ولا يزالان كذلك منذ اليوم الاول من الولاية: هبة باردة وهبة ساخنة. في رد قانون الانتخاب كانت آخر الهبات الساخنة، وفي اجتماع الاستقلال البارحة آخر الهبات الباردة.
مع ذلك، بعد كلام عون الموصوف بالنبرة العالية الجمعة الفائت، لم يصدر عن برّي، وهو اول مَن يثب ويسرع ولا يكظم، اي موقف سلبي حيال ما قاله رئيس الجمهورية بتحدّثه عن الفراغ وتسليم السلطة الى الخلف او الى مَن يحلّ محل الخلف. واقع الامر ان ما جهر به رئيس الجمهورية يعرفه سلفاً رئيس مجلس النواب، ويخشاه ان لم يكن يتوجس منه. اضف انه سيكون - وهي مهمته كما كل من اسلافه - اللاعب الرئيسي في ادارة انتخاب الرئيس المقبل.
حكومة مستقيلة لا تملك ان تحكم، ولا تملك ان تملك صلاحيات رئيس الجمهورية


لا تكمن المشكلة في استحقاق الانتخابات النيابية في ذاته، ولا في الاستحقاق الذي سيليه في ذاته، بل في المدة الفاصلة ما بينهما، وما يمكن - من باب الافتراض لا التكهن - ان يحدث في ظل معطيات واقعة حتماً.
لأن الافرقاء جميعاً، في العلن على الاقل، يقولون انهم مصرون على اجراء اول الاستحقاقين في معزل عن موعده، فإن ثمة استحقاقاً ما بين اثنين سيطرأ عملاً بالمادة 69، القائلة بالاستقالة الحكمية للحكومة الحالية فور انجاز الانتخابات النيابية العامة واكتمال البرلمان بأعضائه جميعاً. اذذاك تنشأ المشكلة المتوجس منها، وهي ان يتعثر تأليف حكومة جديدة، على جاري التقليد المتبع منذ ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008، بإمرار اشهر طويلة ريثما يصير الى الاتفاق على اصدار مراسيمها.
في المادة 69، من بين حالات ست، ثمة ثلاث حكمية لاستقالة الحكومة يصعب التلاعب بها او التراجع عنها او التحايل من حولها حتى: انتخاب رئيس للجمهورية، وانتخاب مجلس نيابي جديد، ووفاة رئيسها. استقالة كهذه لا تحتاج الى رئيس للجمهورية كي يقبلها، بل تصبح سارية النفاذ من ان دون يعقبها للفور تسمية رئيس مكلف تأليف الحكومة الجديدة.
مؤدّى الخشية من هذا الاستحقاق «المرعب» - اذا جاز التعبير - في توقيته، ان استقالة الحكومة ستعبر، ربما قياساً بالسوابق المارة منذ عام 2008، بالمهلة الدستورية لانتخاب الرئيس، وقد تتجاوزها. وربما ايضاً بحسب المتوقع الرائج اخيراً، ان الخلاف على انتخابات الرئاسة قد يطيح موعدها الدستوري وتصبح البلاد امام خطر فراغ حقيقي، لا شغور المنصب فحسب.
ذلك ما عناه رئيس الجمهورية بقوله انه يسلّم الرئاسة - وهو واجب دستوري ـ الى مَن ينتخبه البرلمان خلفاً له، او الى حكومة قائمة دستورياً اذا تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية عملاً بالمادة 62، الملزمة انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية اليها بأعضائها مجتمعين عند حدوث الشغور الذي يقضي حكماً بمغادرة رئيس الجمهورية منصبه. اما ما لا يسع رئيس الجمهورية فعله، وهو ما افصح عنه صراحة، فالاعتقاد بتسليم صلاحياته الى حكومة تصريف اعمال لتعذّر تأليف حكومة جديدة عاملة. لأنها لا تجتمع في مجلس الوزراء، ولا تمثل امام مجلس النواب، وهو التقليد الذي احدثه الزعماء السنّة منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011، وآخر صوره كان اصرار الرئيس حسان دياب على عدم التئام حكومته المستقيلة اياً يكن الموجب. لأنها حكومة تصريف اعمال وفق النطاق الضيّق الذي ناطه بها الدستور، لا يسعها تسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا إلباس مجلس الوزراء مجتمعاً بزّة رئيس الجمهورية ريثما يصير الى ملء الشغور الرئاسي.
سبق للبنان مرات ثلاثاً ان خبر شغوراً في رئاسة الدولة: الاولى عام 1988 في ظل دستور ما قبل اتفاق الطائف الذي كان يجيز لرئيس الجمهورية تأليف حكومة جديدة ترث صلاحياته عند استقالته وشغور المنصب اقتداء بسابقة 18 ايلول 1952، والثانية والثالثة متشابهتان بعد اتفاق الطائف وتعاقبتا بعد انتهاء ولايتي الرئيسين اميل لحود عام 2007 وميشال سليمان عام 2014، وكانت حكومتا ذلك الزمان قائمتين غير مشوبتين بعيب دستوري. اما الحالة المُخشى منها، فهو نهاية ولاية عون في ظل حكومة تصريف اعمال. لا تملك ان تحكم، وتالياً لا تملك ان تملك صلاحيات رئيس الجمهورية وهي مصابة بعيب استقالتها.
في ذلك بدا واضحاً تماماً ما عناه عون، على وفرة ما قيل في كلامه الاخير وما سيقال الآن ولاحقاً: يسلّم الى خلف او الى حكومة قائمة، لا الى حكومة تصريف اعمال.
السؤال الاكثر ارباكاً اذا وصل لبنان الى مأزق دستوري كهذا، غير مسبوق في تاريخه. لا نصوص فيه، ولا اجتهاد، الا ما يمكن ان ينشأ عنه في حينه كون الاستثناء بات يصنع القاعدة. مفاد السؤال: اي صلاحيات يمارسها رئيس للجمهورية انتهت ولايته المحددة في الدستور بست سنوات ولا يزال في الحكم بلا اعادة انتخاب او تمديد ولاية، ولا يسعه ترك المنصب شاغراً لا احد يحلّ فيه، في ظل استعصاء تأليف حكومة لأن الافرقاء يتخانقون على مقاعدها ووزرائها فحسب.
الصائب المجرَّب في لبنان ان الوقائع تصنعها الهواجس، اكثر من تغلّب تلك على هذه.