انتهت ولاية ملحم خلف كنقيب للمحامين ويمكن تلخيص ولايته بجملة «غطّ حمام طار حمام». بطبيعة الحال، لا يُتوّقع أن يصدر ما هو ثوريّ من كنف أكثر النقابات رجعيّة في الجمهورية. لكن ثوريّي لبنان يائسون ويريدون الخلاص من حيث أتى، فطوّبوا النقيب الذي استفقنا اليوم من حلمه قائداً ثورياً. وإن كنّا نعتبر رَبع المحامين محافظين، فما بالك بالقضاة المحافظين أكثر من المحامين. إذ لديهم مجموعة من القيم في التقليد القضائي، الذي يفترض أنه مستوحى من فرنسا العلمانية، لا يحيدون عنها. نادي القضاة هو أبعد ما يكون عن الشعب لأسباب بنيوية، فالانضمام إليه يتطلّب بطبيعة الحال الانعزال عن الشعب لممارسة التجرّد والحياد في القرارات، ولتكون قاضياً عليك أن تشبه القضاة الموجودين وإلا لن تكون.المشكلة في معركة المحامين، وقبلهم المهندسون، هي أنه عندما قرّر «التغييريون» مواجهة المنظومة المصرفية، كما ادّعوا، كان ذلك من أجل مصالحهم الخاصة. فهم هبّوا لمحاولة استرجاع ودائعهم ومدّخراتهم قبل ودائع غيرهم، في تصرّف فئويّ على حساب عدالة الإجماع، وهنا الفرق بين القضاء والسياسة. النظام القضائي مصمم للعدالة في الحالات الفردية لا على مستوى الشعب أجمع، فهناك ادّعاء ودفاع في قضايا محدّدة. ومع أهمية القضاة والمحامين في دولة القانون، لن تأتي العدالة الثورية من قصر العدل، فالثورة ليست وظيفته. لكن لا خوف، فثورة الأحرار آتية لا محال، ليس من صناديق اقتراع نقابات المهن الحرّة بل من صناديق اقتراع السفارات. ولا نتكلّم هنا عن سفارات الاستعمار التي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلد، بل السفارات اللبنانية المنتشرة حول العالم. بقي البعض يتهم الثوار الأحرار المستقلين غير السياسيين وجديدهم التغييريين بأنهم جماعة سفارات إلى أن قلبوا الطاولة وأثبتوا أنهم فعلاً جماعة سفارات، لكنها سفارات اللبنانيين المتحرّرين من القيود التي يفرضها العيش في لبنان عليهم.
يتم الاحتفال برقم 244,442 على أنه انتصار ملحميّ إذ يبلغ ثلاثة أضعاف رقم الذين تسجلوا لينتخبوا نواب بلدهم الأم من بلاد الحرية التي يقطنونها في الانتخابات النيابية. وفقاً للإطار الفكري للمبتهجين، هذا التهافت على التسجيل مؤشر إلى أن ما زرعته ثورة 17 تشرين سيُحصد الربيع القادم، إلّا إذا باغتنا طارئٌ بإطارٍ غير متوقع، فقد تضرب مفاعيل الاحتباس الحراري المحصول قبل القطاف مثلاً. لكن لنفترض أن من خاب ظنه من ملحم خلف، ومن التظاهر في الشارع، ومن جماهير الأحزاب التي لم تسِر خلفهم، ومن إيمانويل ماكرون الذي كذب عليهم وسرق «عبّوطة» واختفى، ومن فراس الأبيض الذي اختفى هو الآخر، لن يخيب ظنه هذه المرة من المنقذين المنتشرين خلف البحار. ما هو التغيير الآتي؟ ما هي الطروحات البديلة؟ هنا نعود دائماً إلى غياب أي طروحات سياسية بديلة، وكل ما هو مطروح هو إعادة تأهيل منظومة مهترئة بوجوه جديدة، بعد أن اقتنع رعاة المنظومة أن قديمهم غير قابل لإعادة التأهيل.
أكثر المتحمسين للتغيير الجذري من خلال الانتخابات النيابية هم الحرس القديم بشقيه الداخلي والاستعماري، فداخلياً يحلم ثالوث «العائلة»، والمصرف، والكنيسة بعودة مجد لبنان لهم. فحزب العائلة أتمّ عملية تغيير صورته بما يتناسب مع المتطلبات الديمقراطية الاجتماعية لقيادة عملية التغيير، ولوبي المصرفيين ليس بعيداً عن المشهد ويتهيأ للخضوع للعملية الجراحية التي تعيد إنتاج المنظومة بأسماء جديدة في حاكمية البنك المركزي كما المطبوعة على أبواب الفروع ومقدمات نشرات الأخبار في المحطات المأجورة للمنظومة. أما بكركي، فهي أزل لبنان وأبده ولا تتغيّر. لكن ليس بأصوات بكفيا وحدها يحيا التغيير، وهنا يلعب الأمل المنتظر فرجه من المنتشرين دوره، وقد ترى التغييريين يدقّون وشم 244,442 على زنودهم بعد أن ملأت التصاميم المحتفية بالوسم منصات التواصل الافتراضية. يا منتشر أدركنا!
أمّا الشقّ الاستعماري فهو للمفارقة منتشر في الداخل اللبناني. لا يخفى النشاط الانتخابي لرباعي السفارات الغربية، فدوروثي شيا شمّرت عن زنودها (غير الموشومة حتى الآن) وتعمل على الأرض من قرية شمالية إلى أخرى من أجل إيصال التغييري ميشال معوّض إلى ساحة النجمة. الألماني مأخوذٌ أكثر بالجانب الفكري والفلسفي ولا يمرّ أسبوع لا يجالس فيه مفكري وفلاسفة التغيير أمثال أدمغة حركة «تقدّم». بالمناسبة لوغو حركة «تقدّم» استبدل نقطتي القاف بسهمين للدلالة على الاتجاه التي تسير فيه الحركة، والذي يوحي الاسم بأنه إلى الأمام، لكن لم يلحظ العباقرة في الحركة التغييرية أن أسهم القاف وجهتها اليمين، أي إلى الوراء إن كنت تقرأ الكلمة من اليمين إلى اليسار كما هو معتاد في اللغة العربية منذ القدم. لعل تغيير وجهة الكتابة والقراءة في اللغة العربية هو التقدّم المبتغى.
أعذروني، لكن في ما يلي جملة فيها الكثير من الكلمات الخشبية إلا أنها ضرورية. أهداف الحرس القديم السياسية واضحة وهي إعادة تعويم النظام الاقتصادي الليبرالي اليميني المفلس المهيمن عليه من رأس المال بشقيه الكومبرادوري المحلي والاستعماري الإمبريالي. وكل شغل حراس الهيكل سياسي بامتياز ويهدف لتلك الغاية، ولذلك إذا كان الهدف فعلاً هو تغيير المنظومة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فكفانا أوهاماً عن منقذين يأتوننا من أوكار المنظومة تارة ومن آخر المعمورة تارة أخرى. قوى الغرب المهيمن ليست في أفضل أحوالها، وتصرّف ديبلوماسييها لا يدلّ على أنها مرتاحة على وضعها. سمعنا أخيراً أن هناك مئة ألف لبناني يتدربون ويتسلحون ويتولون مهمة إنهاء هيمنة الغرب العسكرية التي طالت في المنطقة. حسناً. لكن ما المانع من أن يتولى مئة ألف لبناني آخرون، أو 244,442، معركة تغيير النهج الاقتصادي السياسي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه؟ أكرّر، المنظومة القديمة أفلست وتترنّح وتحاول إنقاذ نفسها أو ما تبقّى منها، والوقت ملائم للثورة، لكن ذلك يتطلّب عملاً سياسياً جدّياً الآن، وهنا، وإلا ستستمر الأوهام والخيبات التغييرية. لكن، هل من ثوار؟