يوماً بعد آخر، تستحيل الأزمة الاقتصادية المالية أكثر شراسة في تأثيراتها على القطاعات الاقتصادية. فكلما تمدّد العجز المالي، تضاعفت المصاعب التي تواجهها تلك القطاعات أو العاملين بها. مع ذلك، لا تتوحّد التأثيرات بين الكل، فثمة قطاعات لا تزال في أول طريق الأزمة، فيما تواجه أخرى مصاعب مصيرية «قد لا تبقي ولا تذر»، ومنها قطاع الأدوية الذي يتهاوى اليوم تحت الضربات، التي كان آخرها رفع الدعم - الجزئي - عن أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية. ولئن كانت هذه الضربة الأخيرة قد أحدثت ضجّة كبيرة لكونها تمسّ بتداعياتها مئات آلاف المرضى الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تحمل تكاليفها، ثمة أزمات أخرى تحدث في القطاع «عالسكت»، ومنها أزمة «انسحاب» المكاتب التمثيلية لشركات الأدوية العالمية أو بتعبير آخر «إعادة الهيكلة» التي بدأت بها معظم تلك المكاتب في لبنان، على حد توصيف رئيسة تجمع الشركات العالمية، كارول حسون. اليوم، وبصرف النظر عما يمكن أن يسمى ما يحصل على صعيد مكاتب الشركات العالمية الممثلة في لبنان، ثمة واقع كالتالي: بعض الشركات تجري عمليات تقييم لوجودها في البلاد، فيما حسمت شركات أخرى قراراتها التي ترجمت بإقفال بعض مكاتبها أو بـ»تشحيل» أعداد موظفيها في إطار إعادة هيكلة تواكب بها الأزمة المالية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى بعض المكاتب التي بدأت باتخاذ خطوات جديدة على طريق إعادة الهيكلة، ومنها شركة «نوفارتس» التي عمدت أخيراً إلى تقليص أعداد موظفيها في مكتبها إلى 30 موظفاً، فيما عملت على تسريح ستين آخرين، وكذلك الحال لشركة «فياتريس» التابعة لشركة «فايزر» والتي سرحت ما يقرب من 31 موظفاً، وشركة «ميدا» التي أقفلت مكتبها، فيما تعتزم شركات أخرى إلى اتخاذ خيارات مماثلة ومنها شركة غلاكسو سميث كلاين (GSK) و«تبوك» وشركة «حكمة» أيضاً التي تدرس خيار الإقفال لا التسريح.
يعمل في المكاتب التمثيلية لشركات الأدوية العالمية ما يقرب من 4 آلاف موظف


مع ذلك، ليس هذا المسار جديداً لدى شركات الأدوية العالمية التي بدأت بـ»درس» خياراتها منذ بداية العام الجاري، إذ عمدت حينها بعض الشركات إلى تسريح موظفيها وإقفال مكاتبها، ومنها شركتا «باير» و«ليو فارما»، من دون أن تعلّق مهامها التي أوكلت بها إلى الوكلاء المحليين. ولا يزال «الحبل ع الجرار»، خصوصاً مع تمدد الأزمة المالية التي قد تدفع الكثير من الشركات لاتباع النهج نفسه. يوجد اليوم في لبنان ما يقرب من 40 شركة عالمية، منها 20 شركة عالمية كبرى، متعددة الجنسيات، بحسب حسون، «تدفعها الأزمة الاقتصادية اليوم إلى إعادة النظر في طريقة العمل لتصبح أكثر قدرة على التكيف مع الوضع غير السليم الذي يمر به لبنان». تؤكد حسون في الوقت نفسه أن هذه الاستراتيجية لا تعني مطلقاً أن «هناك نية للخروج نهائياً من البلاد أو تعليق العمل فيه». بالنسبة للأخيرة، ما يحصل اليوم في القطاع الصيدلاني «نتيجة حتمية للأزمة الاقتصادية»، وهو ما يشير إليه صراحة المعنيون في القطاع الطبي والصيدلاني، وما هو متوقع أيضاً، بحسب هؤلاء، خصوصاً في ظل الأخذ في الاعتبار سياسة تلك الشركات «التي ترتكز على حسابات الربح والخسارة»، على ما يقول رئيس لجنة الصحة النيابية، عاصم عراجي. وهي معادلة أساسية لدى تلك الشركات. في عز أزمة الدواء، تراجعت أرباح تلك الشركات، وهو ما يدفعها لاتخاذ خيار تقليص وجودها في لبنان، للاهتمام بأسواقٍ أخرى أكثر ضخامة وأهمية. الجانب الأسوأ لهذا القرار يكمن في فقدان موظفين لبنانيين لعملهم في تلك الشركات، وهم الذين يبلغ عددهم نحو 4 آلاف موظف، «إضافة إلى قطاعات أخرى تتأثر بعمل الشركات العالمية، من شركات توزيع ووكلاء، فضلاً عن تمويلها أيضاً للأبحاث السريرية والمختبرات»، على ما تقول حسون.
وإذ يعتبر عراجي أن القرارات التي تتخذها بعض الشركات اليوم «متسرعة»، إلا أنه يعرف بأن الوصول إلى هنا كان «طبيعياً». ولئن كان لا يقلّل من شأن ما يحدث، خصوصاً لناحية تمثل الشركات العالمية بمكاتب رئيسية في لبنان، لكنه من الناحية الأخرى «قد تعيد هذه الأمور اليوم النظر في وضعية الشركات المحلية للعمل على تعزيزها»، وهو ما يذهب إليه نقيب الأطباء في بيروت، شرف أبو شرف، معتبراً أنه بقدر ما يحمله هذا الأمر من تبعات سلبية، إلا أنه لا يخلو من «الإيجابية»، لناحية تعديل الإعوجاج في السياسة الصحية «القائمة على البراند بدلاً من الجينيريك على عكس كل بلاد العالم»، يضاف إلى ذلك «قد تكون مناسبة للعمل على دعم الصناعة الوطنية التي لا تشكل اليوم أكثر من 10% من السوق الدوائية في لبنان، والتي يمكن أن تصل مع الدعم إلى 50%».