لا يمكن مقارنة لبنان بروسيا حيث خاض الرئيس فلاديمير بوتين حرباً ضد «منظّمات المجتمع المدني» والجمعيات غير الحكومية واستهدفها عملياً ولفظياً. لكن ما تقوم به بعض الجمعيات «اللبنانية» تدفع إلى التذكير ببوتين. والمقصود جمعيات وشخصيات معروفة التوجه والانتماء والتمويل السياسي والإعلامي، وليس تلك الجادة التي بدأت عملها قبل 17 تشرين الأول، في ملف النفايات ولاحقاً في المصارف، وظهرت في خطاب سياسي واضح في تلك المرحلة التي لا تشبه بوهجها المتألق محاولة استثمار 17 تشرين لخلق مشهدية هجينة.لا تزال الإجراءات المصرفية تذل اللبنانيين، والانهيارات تعمّ القطاع الطبي والاستشفائي، وترتفع أسعار المحروقات وفواتير المولدات الكهربائية في صورة موجعة، ومع ذلك فإن اللبنانيين يتصرفون - كما القوى السياسية - من دون أي رد فعل موازٍ للمصائب المعيشية التي تحل بهم. وإذا كانت القوى السياسية تمارس شعائرها السياسية، انطلاقاً من الموسم الانتخابي، فإن السؤال عن غياب انتفاضة اللبنانيين بعدما فقدوا أي أمل في حراك مجتمع مدني، ثبت فشل تجربته بعدما حاول قطف ثمار 17 تشرين وبنى لنفسه منصة إعلامية وسياسية تطرح نفسها أمام الخارج على قاعدة أنها «قوى تغييرية». هذا المجتمع المدني بدأ حملات انتخابية من خلال شيطنة الجميع، لكنه يلعب لعبة الأحزاب، فيمارس كل أنواع الديكتاتورية في حق الآخرين، تحت ستار شعارات رنانة وتمويل خارجي مرتفع الكلفة، ويوزع شهادات بالانتماء الوطني لمؤيديه وتخوين معارضيه. ما يحصل في اقتراع المغتربين مظهر من مظاهر تبني هذه المجموعات الحملة التسويقية لدفع غير المقيمين للتسجيل، على افتراض أن جميع هؤلاء سيصوّتون ضد الأحزاب السياسية وسيقترعون حكماً للمجتمع المدني من دون أي التباس. وهذا الأمر ليس صحيحاً، ففاعلية الأحزاب في الخارج لا تزال على قوتها، والتجربة الماضية والاستنفار الحزبي الحالي يدلان على ذلك، وهذا الأمر سيكون محكاً حقيقياً لكلا الطرفين حين يتم استخلاص النتائج. علماً أن الأحزاب لا تزال تعمل ضمن آلية واضحة ومعلنة وبرنامج سياسي محدد مهما اختلفت النظرة إليها. في المقابل، وقبل نحو أربعة أشهر من موعد الانتخابات، لا يزال «المجتمع المدني» غامضاً في تقديم نفسه في صورة واضحة وبرنامج عملي أبعد من شعارات تصلح لكل زمان ومكان، كـ«إسقاط الطبقة الحاكمة ومكافحة الفساد وبناء شبكة مواصلات وفرز النفايات...». كل من عمل في مجال الانتخابات وليس طارئاً عليها، كما هي حال من يحاول اختزال المجتمع المدني عبر أطر سياسية وإعلامية، يتحدث عن «الحالة الصوتية» الراهنة، في تقديم معارضي الأحزاب أنفسهم على طريق الانتخابات. الانتخابات هي «اسم وصوت وبرنامج عمل»، وليست فقاعة في الهواء. فأي مجتمع مدني لا يتحدث عن شعار سياسي واضح، ولا يأتي على ذكر الدستور والطائف وبرنامج عمل سياسي يُفهم منه أي شيء، عدا عن العداء للطبقة السياسية كلها. وأي مجتمع مدني لا تعرف منه سوى لافتات مرفوعة على الطرق أو خطب واتهامات عبر منصات التواصل الاجتماعي أو التلفزيوني تمعن في تهشيم الآخرين، وأبلسة كل المجموعات الشبابية الحزبية وليس القيادات فحسب. فمن الذي يقدر أن يحكم على عنصر حزبي من القوات اللبنانية أو حزب الله أو المردة أو التيار الوطني الحر والمستقبل وأمل والشيوعي الذي سبق الجميع بشعارات العدالة الاجتماعية، أقل انتماء لبنانياً من «ظواهر» المجتمع المدني لمجرد أنهم حزبيون، أو يعتبر أن أي عنصر حزبي أقل فكراً وعلماً وأخلاقاً من بعض الشخصيات التي تملأ الفضاء شتائم.
أي مجتمع مدني يخوض الانتخابات النيابية ولا يكلف نفسه عناء شن حملة لفرض الانتخابات البلدية


وأي مجتمع مدني هو الذي يعيّر الأحزاب السياسية بأنها تستغل وجع الناس لتصرف أموالاً انتخابية من مازوت ومولدات ومساعدات غذائية وأدوية، فيما هو يتقاضى مئات آلاف الدولارات من الخارج ولا تعرف وجهة صرف هذه الأموال سوى ما ظهر حتى الآن من حملات إعلانية وتسويق منصات إعلامية جوفاء، لا تغني محتاجاً ولا تؤمّن له دواء. وأي مجتمع مدني يخوض الانتخابات النيابية ولم يكلف نفسه عناء شن حملة موازية لفرض الانتخابات البلدية التي من المفترض أن تكون قاعدة العمل الإنمائي والحياتي، وهو الذي يستنسخ عمل هذه الجمعيات خارج لبنان ويتمثل بتجارب غربية. وأي مجتمع مدني ينطلق البعض منه بالتعاون مع مؤسسات أممية عبر وزارات وبرامج دولية ويتقاضى أموالاً طائلة، في حين يتهم كل الآخرين بخوض الانتخابات بأجندات ومشاريع خارجية. وأي مجتمع مدني يستغل انفجار مرفأ بيروت سياسياً ويستغل المساعدات من أجل تقديم نفسه كمرشح بديل عن كل القوى السياسية، فيما الجمعيات الإنسانية الحقيقية لا تزال تعمل بصمت بعد انفجار المرفأ لإعادة الإعمار ومساعدة المنكوبين من دون أن تقدم نفسها بديلاً سياسياً. وأي مجتمع مدني انطلقت شخصيات منه من الأحزاب نفسها فعملت لديها ونسّقت معها وسوّقت لها قبل أن تتحول إلى مجتمع مدني وجمعيات تراهن السفارات مخطئة عليها في قلب موازين السلطة. إنه مجتمع مدني سيظل مديناً للأموال الخارجية، ويشكّل نكسة جديدة للذين يعتقدون أن لديهم بارقة أمل في لبنان.