يبدأ وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، اليوم، لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين بعدما وصل إلى بيروت مساء أمس. الزيارة تأتي في سياق الاهتمام التركي بلبنان مع تفاقم التوترات في المنطقة، وفي إطار التنافس بين أنقرة وخصومها، علماً بأن هذه الزيارة الثانية لأوغلو لبيروت، بعدما زارها في 8 آب 2020 برفقة نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي، عقب انفجار المرفأ، وبعد يومين فقط من الزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان. وكان حينها واضحاً مدى اشتداد حدة التنافس بين تركيا من جهة، والقوى «المعادية» لها في شرقيّ المتوسط، وعلى رأسها فرنسا. فيما تأتي الزيارة الحالية في ظل صراع بين تركيا وكل من السعودية والإمارات على النفوذ في العالم الإسلامي، ومنه لبنان. والأمثلة على هذا التنافس كثيرة، كما حدث أخيراً في السودان عندما أطاح العسكر المؤيّدون للسعودية والإمارات رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك الصنَّف مبدئياً في خانة «الإخوان المسلمين» و«جماعة قطر وتركيا»، وقبله الانقلاب المدني بدعم من الجيش على حركة النهضة في تونس، وهزيمة حزب «العدالة والتنمية» المغربي في الانتخابات النيابية.تأتي زيارة جاويش أوغلو في لحظة في غاية الحساسية بالنسبة إلى لبنان. فالعلاقات بين لبنان وكل من السعودية والإمارات تكاد تبلغ ذروة التوتر والقطيعة، مع انكفاء العواصم الخليجية عن الساحة اللبنانية. وبما أن قانون الطبيعة لا يعرف الفراغ ولا بد من أحد أو قوة أن تملأه، فمن الطبيعي أن تحاول تركيا استغلال هذه اللحظة لملء الفراغ قدر ما تستطيع. وما يؤكد هذا الاتجاه الوظيفي من الزيارة هو الزيارة المزمعة لوزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، للبنان، في تناغم واضح بين أنقرة والدوحة. وتعوّل تركيا لملء هذا الفراغ، السعودي ــــ الخليجي تحديداً، على اعتبار أن الفراغ الذي تملأه إيران لا يمكن لأحد سوى طهران ملؤه، مع بعض العوامل المساعدة التي قد لا تكون كافية لتحقيق المبتغى.
أولاً، تحظى تركيا، ولا سيما رجب طيب إردوغان، بعلاقات جيدة مع رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي. وهي علاقات قديمة بدأت بتوأمة جامعة العزم مع نظيرات لها في تركيا وعلاقات ثقافية وتعليمية بين تيار العزم وحزب «العدالة والتنمية» في تركيا. لكن التعويل على مثل هذه العلاقة ليس في محله، لأن رئيس الحكومة اللبنانية السابق، سعد الحريري، كان ينسج علاقات شبيهة، بل أعمق من خلال حصة له في «تورك تيليكوم»، فضلاً عن علاقة له بملف البواخر التركية لإنتاج الكهرباء والتي انتهت إلى التوقف والانسحاب قبل أقل من شهرين. ومع ذلك، لم تستطع تركيا أن تعوّم الحريري ليكون ركيزتها في لبنان لسبب بسيط، هو أن الحريري نفسه لا يريد ذلك ولا يستطيع لأنه يدرك أنّ أيّ تعويم له يمرّ أولاً وأخيراً من السعودية. والأمر نفسه ينسحب الآن على ميقاتي الذي وقف بقوة إلى جانب السعودية ضدّ أحد وزراء حكومته، وزير الإعلام جورج قرداحي. وهو يدرك اليوم أن مفتاح الرضى الخليجي عليه هو السعودية وأن أي بلد آخر لن يدعم لبنان حتى لو كان على خصومة مع السعودية مثل قطر.
يأمل مسؤولون في أنقرة والدوحة تطبيق معادلة «مشاريع تركية بمال قطري» في لبنان


وبما أن التركيبة الديموغرافية اللبنانية تضع مبدئياً كل طائفة «عند» دولة خارجية معينة. فهذا يعني أنه إذا كان لتركيا أن يكون لها نفوذ فيفترض أن يكون داخل الساحة السنية، وهو ما يشكل عقبة أمام تقدّمها والقيام باختراق فعلي لهذه الساحة. فالقوى التي تؤيّد تركيا في الساحة السنية اللبنانية محدودة ولا تشكل أيّ ثقل شعبي، وبالكاد تقتصر على بعض الأصوات في الشمال اللبناني نتيجة بعض العلاقات أو المساعدات. أما القوة الشعبية الوحيدة المؤيدة لتركيا والتي يمكن أن تشكل لها رافعة فهي «الجماعة الإسلامية». لكن الأخيرة لا تريد، منذ وقت طويل، إظهار تبعيّتها لحزب «العدالة والتنمية» وتحرص على إظهار استقلالية كبيرة على هذا الصعيد كي لا تثير حساسية الأفرقاء الآخرين وتفصل بين «الولاء القلبي» للأفكار والتطبيق العملي.
لذلك، فإنّ أي مسعى تركي لكسب النفوذ وإقامة ركائز لا يجد ركيزة له في الشارع السني. أما بعض الشخصيات التي يمكن أن تشكّل مثل هذه الركيزة فهي تدرك أن غياب الغطاء السعودي واللجوء إلى غطاء تركي لن يكسبها أيّ معركة بل يقلّل من أيّ ثقل قد يكون لها. لذلك فإن وزير الخارجية التركي يسعى إلى التغلغل في الساحة اللبنانية من خلال خطط الإصلاح التي تقدّمت بها الحكومة اللبنانية، سواء المالية منها أو مشاريع الكهرباء أو إعادة إعمار مرفأ بيروت. ولتركيا تجارب ناجحة جداً في الداخل التركي وفي العديد من البلدان على صعيد بناء البنى التحتية ومعامل الكهرباء. ولعل تزامن زيارة أوغلو مع زيارة نظيره القطري هو لوضع المقترحات التركية قيد احتمال التطبيق العملي بوجود المال القطري على قاعدة: مشاريع تركية + مال قطري. وهذه الصيغة يعتقد المسؤولون الأتراك والقطريون أنها قد تقنع واشنطن، وخصوصاً أنها تبعد «شبح» المشاريع الإيرانية والروسية والصينية. لكن السؤال المركزي يبقى حول ما إذا كانت السعودية والإمارات في وارد القبول بمثل هذه الصيغ. وإذا كان الجواب الأكثر احتمالاً هو الرفض، فإن زيارة جاويش أوغلو لن تحدث ذاك الخرق الذي تأمله أنقرة في ظل استمرار صراعها مع السعودية والإمارات وفرنسا وحتى مع مصر. كذلك، وهذا مهم، في ظل تفضيل المسؤولين السنّة في لبنان، على قاعدة «مكره أخاك لا بطلا»، أن تكون كل المشاريع المقترحة أو معظمها، ذات نكهة سعودية خالصة.